رحل الشاعر وبقي شعر أحمد سهوم

«التنكر لتراث الأجداد جناية وعار، والأمة التي لا تعتز بتراثها ، ليست جديرة بالاعتبار.»
بهذه العبارة قدم الاستاذ عبد الله شقرون لكتاب «الملحون المغربي» للكاتب والباحث في أدب الملحون الأستاذ أحمد سهوم ، الذي فارقنا بيوم قبل رحيل الباحث المسرحي ، الذي له فضل إدخال الدراسات المسرحية الى الجامعة المغربية الدكتور حسن المنيعي ، فارقنا أحمد سهوم آخر يوم الخميس 12 من نونبر عن عمر 84 سنة. فارقنا رجل يعتبر ظاهرة متميزة في تاريخ أدب الملحون للنصف الثاني من القرن العشرين ، فارقنا شاعر لم يجتمع لمهتم بأدب الملحون ما اجتمع في الاستاذ أحمد سهوم . فقد ظهرت أول كتاباته في هذا فن في سنوات الخمسينات من القرن الماضي ، ثم استلم في الستينات مشعل التعريف بهذا الفن من الاستاذ والوزير السابق للثقافة محمد باحنيني ، الذي كان قد بدأ هذه البرامج الاذاعية سنة 1948 ، ليواصل فيها أحمد سهوم شغفه حتى قبيل وفاته . فأنتج خلال هذه الفترة عددا من البرامج مثل «مع التراث» ، «ركن الأدب الشعبي» ، « ديوان شعر الملحون» الخ.
« لقد ظلا ـ أحمد سهوم و الملحون ـ ملازمين لبعضهما ما يزيد عن أربعين سنة ، بليلاتها ونهاراتها ، حتى أصبح الواحد منهما لا يذكر في غيبة الآخر.» هكذا قدم الاستاذ أحمد هناوي مدير جريدة «شؤون جماعية « لكتاب أحمد سهوم « الملحون المغربي حين صدر سنة 1993. فهو من أكبر شعراء الفترة الأخيرة لهذا الفن ، منشد (مغني) ، باحث كرس حياته لأبرازهذا الفن والتعريف بثرائه ، هذا الفن الشعبي الذي يمتد على رقعة المغرب العربي بأسماء مختلفة.
لقد واجه فن الملحون من أجل انتشاره إعلاميا ولا يزال يواجه أمام الثورة الرقمية والتغيرات التي عرفتها الموسيقي والغناء خاصة في الفترة الاخيرة عقبات، غير أن الأستاذ أحمد سهوم تناول هذه الصعاب ، بتفاؤل حين قال : «إن حاضر أدب الملحون هو أفضل من أي وقت مضى . فقد قدمت فيه، وهذا ما لم يحدث في أي فترة سالفة ، 32 أطروحة أكثر من 70 بحثا لنيل الإجازة في المغرب وحده وقد تزايد الوعي بهذا الفن لدى الاجيال الصاعدة من حيث امكانياته المتعددة في ما يخص قدرته على التعبيرغير الناضب في اللغة العامية. فتاريخ الملحون عرف مراحل من التطورالجاد ابتداء من القرن 16 على عهد دولة السعديين….“

كان منزلة بين
الماضي والحاضر

لم يفتن عالم فن الملحون الكتاب والادباء و الباحثين الاكاديميين فقط ، بل كان له تأثيرسحر قوي في الأغنية المغاربية كما استوحى من فنه مبدعون أعمالا مسرحية مثل الطيب الصديقي، الطيب العلج، عبد السلام الشرايبي،عبد المجيد فنيش وآخرون. وهذا الافتتان كان لأحمد سهوم فيه حظ وافر، فقد أحيى الملحون وكان يحيا به بل لنا الحق أن نقول إنه كان الملحون يمشي على قدميه، كان خزانة متحركة، غنية المعارف متجسمة في هذ الرجل، الذي لم يكتف بنهج سبيل أترابه من شعراء ومنشدي الملحون، بل واظب على استقراء قصائد من سبقوه بالتنقيب والبحث عن مكنوناتها وأسرارها ، ليصل الى مفاهيم تجاوزت البحث الأكاديمي عميقة ترخي ظلالها على المعاش اليومي أو التاريخي لهذا الفن.
فهذا النوع من الأدب العربي، الملحون، ليس وليد أمس بل تعود جذورظهوره المبكرة الى الفترة الاخيرة من الوجود الاسلامي في الاندلس. ولقد أثاراهتمام الكثيرمن الباحثين العرب والمستشرقين وفوق الكل في شمال إفريقيا وبوجه خاص في المغرب ، الذين قدموا أعمالا قيمة أغنت الخزانة الادبية العربية بالكثيرمن الإطلالات الثرة على عالم التحول في اللغة العربية ، نذكرمنها على سبيل المثال في الماضي كتاب „الاعلام والاتحاف» الذي أشارالى بعض شعراء الملحون أو كتب خاصة بالملحون ككتاب الدكتورعباس الجراري „ القصيدة“ ، أو معجم الاستاذ محمد الفاسي „معلمة الملحون» أو الاستاذ عبد الله شقرون
« دولة الشعراء» وأسماء أخرى لا تقل عطاء عن هذه . لقد شد الاستاذ أحمد سهوم من خلال برامجه الاذاعية أو أثناء مداخلاته التمهيدية لأمسيات الملحون مستمعيه من كل الشرائح الاجتماعية ومن كل الاعمار، وذلك عبر أسلوبه الفصيح الغني بالتشبيهات والمقاربات وإلمامه الواسع على الأدب العربي الجاهلي والإسلامي والحديث ومقارناته بين عيون الشعرالعربي وشعر الملحون وكذا إحاطته بتاريخ هذا الفن من منذ نشوئه في الاندلس وانتشاره في المنطقة المغاربية الى الوقت الحاضر. لقد عمل على تعميق المفهوم والبعد الأدبي لهذا الفن التراثي عبر كتاباته ومحاضراته وبرامجه الإذاعية والتلفزيونية وجعل له قاعدة ثابتة حفزت الكثير من الطلبة والباحثين على الاهتمام بهذ الفن وتدوين إنتاجاته بعد ان كان يغلب عليه النقل الشفاهي . كان أدب الملحون يعيش في ذاكرة حفاظه وبموتهم يموت جزء لا بأس به من هذا الإرث الإنساني ، فجعل له أحمد سهوم تاريخا وماضيا . وبناء على هذا المجهود الكبير الذي بذله حبا لهذا الفن، جاءت مساهمات أخرى على نفس المنوال لعدد من الباحثين والمهتمين من خلال الكتابة الأدبية أوالبرامج الاداعية والتلفزيونية كالاستاذ عبد الرحمان الملحوني، محمد المرزوقي، أحمد عيدون، نبيل الجاي ، أو مساهمات النشرالعديدة ومنها بيت الشعر، الى جانب إصدارعدد من الأعداد الخاصة لأدب الملحون في المجلات الثقافية المغاربية أو المطبوعات الخاصة.

لا للخطوط الحمراء

لقد اقتفى شعراء هذا الفن من الشعر الشعبي بحور وأساليب الشعرالعربي الفصيح القديم منه أو حتى الحر، بل ابتكروا بحور الحر حتى قبل أن تظهر في الشعر العربي الحديث بفترة ليست بالقصيرة، ونسجوا كذلك على منوال المقامات أو القصة ما يعرف „بالحراز“ وكذا الرباعيات والجفريات (قصائد تتكهن بالمستقبل) فهو لم يستمد من الشعر العربي الشكل فقط، بل مضامينه من مدح ، هجاء، رثاء، فخر، ثناء وغزل، غير أن سهوم ينكر هذا الاخيرعلى الادب الملحون وهو يقول:
« الملحون لا يعرف الغزل لأن الشعر الغزلي هو معادلة موضوعية لكائن متجسد أو متخيل كقصائد قيس أو جميل. أما الشاعرالملحوني فقصائده إشارات أشواق غير أنه لا يمكن استخراجها إلا عبر مسميات لاهي موجودة ولا متخيلة.“
لقد لعب الاستاذ سهوم دورا مهما في إثراء الموسوعة الادبية الملحونية بفيض من القصائد ، ما جعل أكاديمية المملكة المغربية تصدر، في إطارمشروعها التوثيقي لأدب الملحون ، ديوانه الشعري الذي حمل رقم 11 في سلسلة منشوراتها . فأشعار وإسهامات الاستاذ سهوم تمثل مسيرة إبداعية تزيد على ستين سنة من العمل المتواصل والحب الجنوني لهذا الفن . لقد عمل أحمد سهوم طيلة حياته بصبر وعشق مهوس على المد في عمر الملحون. فمن خلال أسلوبه المنساب، الذي يوحي وكأن كلماته وليدة اللحظة حيث تاتي عفوية تلقائية شاعرية تقدم المادة الاذاعية أو المداخلة كسياحة في حدائق معرفية، عماده في ذلك مخزون شعري عربي فصيح ولغة عامية مخضرمة تتقاطعها المفردة العربية والدارجة المنتقاة وجولة تبدأ بالقرآن، مرورا بمصنفات الحديث ثم المتون الفقهية حتى تصل الى المثل الشعبي، وهذه المراجع كلها تمثل المعتمدات والمصادر التي يأوي الى ركنها شعراء الملحون في جل أعمالهم، بغية المقارنة والشرح بلغة أقل ما يقال عنها لغة التجاوب.
لقد كان الشاعر والباحث أحمد سهوم رغم تكوينه الكلاسيكي، حيث ولد في مدينة فاس الجديد سنة 1936 وزاربعد الكتاب القرآني المدرسة التابعة لجامعة القرويين ومارس حرفة الخرازة، كان منفتحا على كل ما هو جديد ، فكان من المعجبين والداعمين للظاهرة الغنائية التي انطلقت على يد ناس الغيوان وجيل جلالة والتي سميت ببيتلز العالم العربي، وغنت الكثير من قصائد الملحون . كما أنه لم ير في الاعمال المسرحية الملحونية الصرفة مثل سيدي قدور العلمي لعبد السلام الشرايبي أو الحراز من اخراج الطيب الصديقي إخلالا بمقومات فن الملحون لأنه كان يرى أن التعامل مع الملحون ضرورة وحاجة في زمن الالكتروني والغزو الإعلامي الفضائي: «إننا في أمس الحاجة الى الرقي بالتذوق الفني ، اللغوي والجمالي . فقد علمنا الملحون فن نحت الكلمة، صياغتها كما منحنا إمكانية تذوق سحرالتعبير، سلطته وأبعاد قوته. فلغة الملحون قوامها لغة عربية عريقة إما ذات طبيعة تعبيرية عربية مغاربية أندلسية أو شرقية قديمة ، ظلت تحمل جذورسماتها الأولى ، التي جاء بها التوسع الاسلامي إلى شمال افريقيا. فإذا لم يعد هناك راع أدبي للتذوق، الذي ما فتئ فن الملحون يحرص على القيام به ابتداء من عصر المنصورالذهبي حيث انتقلت الثقافة الشفاهية من الشمولية الى الخصوصية المغربية والمغاربية ، فسيصبح محكوما على هذا التذوق، بسبب وضع الخطوط الحمراء، التي على الشاعر لزاما الإذعان اليها وعدم تجاوزها، وذلك عن طريق انحشارالفقهاء مثلا في مجالات لزوم ما لا يلزم، بمصيرالاندحار. «
لا راحة في الهوى

أحمد سهوم لم يحفظ القصائد ويكتفي بغنائها بل حاورها، جادلها ، غاص في عباب يمها العميق، لم يتبع قشورالملحون بل كان يبحث عن النواة، كان شغوفا بهذا الفن ومات شغوفا به ، يطرح الأسئلة تلو الأسئلة عن مضامينه ويصبو الى ما وراء واجهته. إن لحياة أحمد سهوم مع الملحون رحلة بدأت بذلك العشق الصوفي المبني على المجاهدة والسهر من أجل الوصول الى خلفياته واغراض رموزه التي فتنته بحبها فلم يعرف بعدها راحة . „من قاسو (اصابه) الهوى ما رتاح“ بلغة أهل الملحون . لقد عكف الراحل سهوم على كتابة دراسة عن قصيدة „العقيقة“ للشاعرالجزائري سيدي بوعثمان أحد معاصري الشاعروالفقيه المغاربي عبد العزيز المغراوي، من عدة أجزاء. فقد أنهى منها بعضا والبعض الاخر مات وفي نفسه شيئ منه . فالملحون ، كما كان يقول سهوم هو أكثرمن مجد قصيدة مغناة بل هو دلالات لم ُيرد بها الإطراب فقط. فحتى وإن كانت القصائد تتحدث لغة لا تفشي غير أشواق قد تبدو للوهلة الاولى مجرد عبارات عابرة ، فهي تجميع واختزال لنظرة الشاعر. لقد رحل أحمد سهوم عنا ، لكن خالداته بقيت فينا ما دام الدهر، لم تنته بنهاية حياته الجسدية وما انتهى منها الزمن ، فلكل إبداع غد ، أما غد سهوم فهو الدهر مذابا ليلا على نهار.


الكاتب : برلين : إدريس الجاي

  

بتاريخ : 02/12/2020

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *