سؤال الهوية في رواية «حكايات المنفى» قلق الانتماء وعنف الذاكرة

ظل سؤال الهوية موضوعا متجددا في حقل تلقي الإبداع والفن والقيم الرمزية داخل المشهد الثقافي الوطني الراهن. وظلت الكتابة عن الموضوع، انشغالا مركزيا وعابرا للحدود، تباينت فيه التجارب، وتلاقحت عبره الأصول، واغتنت داخله الروافد. وبما أن المجال لم يعد حكرا على ممارسة «وظيفة التنظير»، فقد انتقل الأمر إلى مجال ترجمة النتائج التأملية والخلاصات التنظيرية والاجتهادات التفكيكية، إلى مستوى أنسنة موضوع الهوية والانتماء الحضاري، وإضفاء عليه بعدا مرجعيا لتأطير الحديث عما أضحى يعرف اليوم بمفهوم «الشخصية المغربية». وقد التقت في هذا المنحى العام، الكتابات المنغلقة على ثوابت الداخل والمتوجسة من متغيراته الطارئة، مع تأملات الكتاب المغاربة المنتمين للضفة الأخرى، حيث الانفتاح على «الآخر»، وحيث الاستماع للصوت المختلف، وحيث تنكسر طابوهات الأصل والانتماء والمآل.

 

في سياق هذا التطور العام، يندرج صدور رواية «حكايات المنفى- عبسليمو النصراني»، لمؤلفها الأستاذ عبد الحميد البجوقي، سنة 2015، في ما مجموعه 134 من الصفحات ذات الحجم المتوسط.
يمكن القول عموما، إن العمل ينهض على مقاربة إبداعية مركبة، تتداخل فيها عمليات التخييل، مع ضوابط صناعة الكتابة الروائية على مستوى الأدوات والاستعارات والتمثلات، ثم ثقل الواقع القائم باعتباره موجها مركزيا لكل عتبات السرد التي اشتغل عليها المبدع البجوقي. يقوم المتن على أساس استحضار دقيق لمسار شخصية عبد السلام الذي وجد نفسه مهاجرا سريا مضطهدا بالديار الإسبانية. لم تنفعه عقيدته الدينية المسيحية، ولا ارتباطه بالتراث الكاثوليكي. وفي المقابل، لم يحتضنه إلا محيط الهامش الذي يصنعه غجر إسبانيا المنبوذين. فمن يكون عبد السلام هذا، أو المورو عبسليمو أو عبسليمو النصراني؟
يقول السارد: «عبد السلام ليس مهاجرا سريا، بل هو لاجئ هرب من بلده بعد أن اعتنق المسيحية، وخوفا من الاعتقال بتهمة الردة ومن الاضطهاد، هرب إلى إسبانيا بحثا عن الأمان، لكنه لم يجد الأمان الذي كان ينشده ولا وجد من يصدق قصته… عبد السلام يتيم، لا أسرة له سوى المؤسسة الخيرية التي تكفلت برعايته، وجدته الشرطة وهو رضيع في سطل قمامة بمدينة طنجة، وعرف من حكايات سمعها من مربيته أن أمه نيجيرية مسيحية كانت تمتهن الدعارة للحصول على المال والعبور إلى أوربا، واعتنق المسيحية على يد راهبة كانت تشتغل في مؤسسة أوربية لدعم أطفال الشوارع… والحقيقة أنه عبسليمو الخيطانو… وطنه الترحال وعقيدته الحرية…» (ص ص. 122-129).
وعلى أساس هذا المسار الطويل، ينهض متن الرواية ليعيد تشكيل الواقع بشكل يتيح إمكانيات واسعة لاستلهام دروس الماضي. لا يتعلق الأمر بكتابة سير-ذاتية خطية، ولا بمذكرات شخصية تقنية، ولا بكليشيهات استنساخية، بقدر ما أنها عودة لإثارة أسئلة الذات القلقة من ضغط الواقع ومن عنف الذاكرة. يتعلق الأمر بإعادة تشكيل لهذا الواقع للارتقاء به من مستواه الحسي المادي المعيشي اليومي، إلى مستوى التراث الرمزي الضامن للخلود وللاستمرارية، بالنظر لقدرته على استيعاب جزئيات الواقع.
يقول السارد مختزلا هذا الأفق المركزي في كتابة الرواية: «الخيال حبيبتي لا يصنع الروايات، خيال الكاتب يمتح من الواقع، وغالبا ما يمتح من حياته» (ص. 133). وبهذه الصفة، تغدو الكتابة الروائية «تأريخا» لتجارب الذات في علاقتها بذاتها أولا، ثم بمحيطها ثانيا، من دون أن يعني ذلك –أبدا- اكتسابها لسمة توثيقية تقنية صرفة. فالروائي ينحو نحو التوثيق الإبداعي لما لا يمكن التوثيق له في سياق الكتابات التاريخية التخصصية الجافة. يمنح النص الروائي فرصا هائلة لتوظيف مجمل الرموز اللامادية المؤثرة في صناعة شخصيته، ويحسن الإنصات لتفاصيل الذاكرة الجماعية كما عاشها الفرد الواحد والمتفرد. هي عودة للنزوعات الفردانية المؤثثة لمعالم الهوية الجماعية التي يصنعها الناس بثرائهم الرمزي العابر للعصور وللحدود وللجغرافيات. يقول السارد موضحا مفهوم الهوية كما اشتغل عليه نص «حكايات المنفى»: «الأصل في الهوية هو الإنسان، وأن الانتماء لا يرتبط بالأرض وأن الوطن لا تسيجه الحدود ولا اللغات، ولا الديانات» (ص. 134). ولعل هذا التصور يشكل الخيط الناظم الذي اشتغل عليه متن الرواية، عندما نجح في الجمع – في توليفة فريدة- بين مكونات هوياتية شتى طبعت شخصية عبسليمو النصراني، حيث تنصهر – إلى حدود الذوبان- الأبعاد الأمازيغية والعربية والإسلامية والمسيحية والقوطية والإيبيرية والمصرية والإفريقية… صانعة معالم التميز في شخصية البطل المورو عبد السلام.
تحمل الرواية قلق أسئلة الذات في مواجهة تحديات الاندماج بالضفتين المغربية والإسبانية، وتقدم بعدا إنسانيا عميقا في مساءلة إشكالات القبول المتبادل، في بعده الهوياتي المخترق للثقافات وللديانات وللغات وللعادات وللتقاليد. وفي هذا الجانب بالذات، يسمح نص «حكايات المنفى» بتوفير مادة خام مهمة للمؤرخ الباحث في خبايا تاريخ الذهنيات والعقائد، وعموم مكونات التراث الرمزي الموجه الأساسي لمختلف العناصر الناظمة لمبدأ العيش المشترك في واقعنا المشترك. إنه العيش المشترك المستند إلى مبدأ الحرية وشعار الحرية وأفق الحرية. هذه رسالة عبسليمو النصراني، وهي رسالة إنسانية عميقة اختزلتها كلمات مغني الفلامينكو الشهير ليبريخانو:
«أحرار كالهواء
أحرار كالريح
كالنجوم في السماء
كآبائنا وأجدادنا
أحرار كما كان موتانا» (ص. 64).
فهل استطاع عبسليمو النصراني تجسيد حريته هاته بوطن الميلاد، ثم بوطن الاستقبال؟ سؤال مركزي لمساءلة عتبات الانتماء ومكر التاريخ وعنف الواقع، هنا وهناك.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 15/10/2021

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *