سنوات عبد المومن المشتعلة ( 1-2 )

 

إلى: عبد الله بوشتاوي، ومحمد عبيد
صديقيْن دائمين

 

( يا زماناً يمرُّ كالطير، مَهْلاً /// طائرٌ أنتَ؟ وَيْكَ قِفْ طَيَرانَكْ
وَيْكَ دَعْنا نَمْرَحْ بأجملِ الأيام /// ونَلْقى من بعد خوفٍ، أمَانكْ )
لاَمارْتينْ ــ ت: الشاعر علي محمود طه

كان عبد المومن بن علي الكومي مؤسس الدولة الموحدية الفعلي، هاربا ـ وَفْقَ بعض الروايات ـ من بطش وملاحقة أعدائه المرابطين الشرسة، أو لنقلْ: من بعض فلول جيش المرابطين المنهارين. ألقى بنفسه في النهر، واشتعل معه حماسا وطمعا مشروعا أو غير مشروع في أن يَحوزَ الملك، ويعتلي الذروة، ويبني دولة عتيدة مغايرة للمُطاح بها، ويكتب اسمه في سجل الخالدين. غاص كسمك المحيطات الرشيقة، تدفعه الزعانف القوية أماماً، وتمخر به رجلاه ويداه الأمواهَ بعزيمة أسطورية، وقوة خارقة كأنه صدر سفينة خرافية تشق الأمواج شقا. كان مملوءا بأفكار محفزة، ومزودا بطاقة خارقة، ومواعظ وتوجيهات روحية ثمينة من شيخه الألمعي الملهم: المهدي بن تومرت.
وجدته لَمَّا يقطعِ النهرَ بَعْدُ سباحةً، ويصلْ إلى الضفة الأخرى حيث بَدْءٌ جديدٌ لوعد جديدٍ، وعهد تليدٍ، فمددت له يدا مرتعشة. بارَكَني وغُصْتُ أتبعه، وأقاوم مثله التيار العنيد حتى لا يقذف بي بعيدا عن الضفة المشتهاة والمبتغاة: ضفة العزاء، وتَنَفُّس الصُّعَداء، والنجاة.
قطع النهرَ فقطعَ مع مرحلة عَمَّرَتْ، ورفع طُنُب دولة في غرب العالم الإسلامي، وأقام مجداً وتاريخاً أثرُهُما باقٍ ومستمر بشكل أو بآخرَ، وروحهما سارية ومتقدة في الجذر التاريخي بَلْهَ الميتافيزيقي الدفين للوطن. أما أنا، فأقمت في ظل اسمه ثلاثَ سنواتٍ قُزَحياتٍ غنيّاتٍ بما لاَ يقاسُ، أنوسُ وأتأرجح بين البناء والهدم: بين أن أبْنيَ نفسي، « مجدي « الشخصي الضئيل وقد جَلْجَل الجرسُ، وأهْدِمَ عقابيل وذيول سنوات المرارة والشقاء.
ولست أدري لحد الساعة، ما الذي كان يرفع منسوب حماستي، ويشعل خلايا دمي، ونبض روحي، وعين قلبي وأنا أراني أدلف وأخرج من الباب الحديدي الرسمي، وأرفع عينيَّ إلى المثلث السيراميكي والنحاسي الذي يشغله ويتمدد فيه اسم عبد المومن. أهو استيحاءٌ من مقروء، أو استمدادٌ واستمطارٌ لعزمه وبركته، أو محاولةٌ تحقيق « أعز ما يطلب «؟
وها أنا في وجدةَ، في ضيافة الباني زيري بنِ عطيَّةَ، وفي « عارْ « عبد المومن، وسيدي يحي، وسيدي مْعَافَى: ( العارْ عليكم أرِجالْ لَبْلادْ ). وفي ضيافة التاريخ العريق، والمجد الأثيل، والجغرافية البهية المعشوقة، والأرض الحرة الأبية، العصية على الغزاة والطغاة. ها أنا أغدو وأروح بين أهلي وعشيرتي، بين أناس دِمَاثٍ، أقوياءَ، شِهامٍ ذوي نخوة وكبرياء ومروءة، لا يعرفون للمخاتلة والنفاق والغدر، معنى ولا طريقا، ولا لباساً، ولا يبحثون لها عن مبرر بدعوى أن الظروف والحاجة تُحَتِّمُ وضع القناع، أحيانا، واللجوء إلى بعض التجاوزات الخُلُقية حتى لا أقولَ: الرذائل والدنايا.
دخلت ُ وَجدةَ مرتبكاً كأنني أساق في أول يوم إلى المدرسة، ثم مُصَفِّقاً بجناحيَّ كفرخ أمسى يطير. صرْتُ فيها. أضحيتُ قطرةً في بحرها، وذَرَّةً في هوائها. احتضَنَتْ تَلْمَذَتي بحُنُوٍّ وحبور، كما تحتضن الأم الرؤوم رضيعها، واللبؤة الملكة أشبالها. فيا أيها الوجديُّ الجديد « الأعرابيُّ « الحَالُّ بسماء أخرى، وبفضاء آخرَ: تَنَشَّقْ، كما شئتَ، ضوعَ أشْجارها، وعطرَ أزْهارها، وهواءَها الشافي العافي الذي ينعش القلوب كما ينعشها منظر النرجس والأكاسْيا، والياسمين، والكاليبتوسْ، والحَوْر، والسَّرْو، ونارْنَجُ الشوارع. وتسَكَّعْ في الأزقة والساحات، والحواري. وجُسْ، كالسائح المخطوف والمتلهف، ممراتِ السوق الممتاز المُغَطّى، المكسو الجنبات، بالورود والأزهار، وزاهي النبات. وأسواق طنجة، ومليلية، وسوق الفلاح. ممرات وأروقة فاغمة بمعروضات العقاقير، والأفاويه، والتوابل، والأعشاب الطبية اليابسة، وعطور الغاديات والرائحات من المراهقات والنساء. المنتوجات الوطنية هنا.. البضائع المهربة هنا.. وكل ما تبغيه وترتجيه، وما يمر بالبال هنا: من قناني الماء البلاستيكية والزجاجية المهربة، إلى علب الأدوية من كل نوع وصنف، إلى مواعين وأواني الطبخ، وأنواع الأجبان، إلى الألبسة والأفرشة والأغطية، والأجهزة الإلكترونية. كل شيء هنا. كل شيء في وجدةَ كأنك في هونغونغ. أتسكع وأتملى، وأتلمظ، وأتنزه، وأدحرج الوقت ماشياً، متنقلا من سوق إلى سوق، ومن حلقة إلى حلقة ( الشيخان المرحومان: أحمد ليّو، وعبد الله المكانة ). تملؤني البهجة والحبور والانشراح، وأنا خاوي الوفاض، فارغ الجيب، أفرغ من فؤاد موسى كما قيل في مَثَلٍ مسكوك. وجُسْ ممرات ومماشي حديقة للاّ مريمْ الفيحاء التي ستصبح لك، بعد حين، مكانا أثيراً، ورُكْنا ركيناً فيه تحفظ الدروسَ، وتتنزه، وتقرأُ الكتابَ، وتحب الأنثى.
وهاهما البابان الكبيران التاريخيان العتيقان: باب سيدي عبد الوهاب، والباب الغربي المُلْتَزّان بين الماضي والحاضر، اللذان تتَسَمّعُ من خلل حيطانهما، وأعشاش طيورهما: سنابكَ الخيل المُسوَّمةِ، وعربات النور السماوية، وبيارقَ النصر المرفرفة، وهتافات الأبطال الرَّضيّةِ، وانكسارت المهزومين العتيّة. فادْلفْ إلى ما وراءَهما، وسِرْ منتشياً بين المارّين والمارّاتِ في أكنافهما، المغمورين بإكسير الحياة في رحابهما، وعبق الأزمنة الساحرة التي لا تَني ـ منذ دهورٍ ـ تتسرب منهما، لتعطيَ لوجدةَ طَعْمها، ونداوَتَها، ونكهتَها، وجمالَها، وفرادتَها، وتاريخَها، وتحرس بالنبل والمجد حاضرها، ولِمْ لا، مستقبلها؟
وها قد صار البحر قريبا منكَ. صار مُتاحاً، بحر « السعيدية «، وهو الذي حسبته لا يطال، ولا يوصلُ، ولن تحظى ـ يوما ـ برؤيته، وكشط « سحر» النفاثات في العقد، عن جلدك بعد أن تغطسَ في موْجِه سبْعَ غَطْساتٍ في الصباح الباكر قبل أن تداعبه أشعة الشمس الأولى، كما أوصتك إحدى خالاتك.
بيْدَ أن جزءاً من أحلامي ورغائبي، تكَدَّرَ وتبَخَّرَ بعد أَنْ أضحيتُ محجوزاً من الاثنين إلى الجمعة داخل قفص عريض وسيع تؤثثه وتخنقه عشرات الأسِرَّةُ المتقاربة المتلاصقة والمثناة. هو قفص على كل حال، رغم شساعته وَوَساعَته، يسمى: « الداخلية «، وبه غرفُ نوم جماعية / مهاجعُ كالثكنات، ما يتحكم في زمنك الدراسي والتحصيلي: النهار في القسم مع الزميلات والزملاء، والمساء في الداخلية مع الأصحاب والأصدقاء القادمين من ضواحي وأطراف مدينة وجدة. ومع ذلك، اِسْتَطَبْتُ إقامتي في قاعة النوم رقم 1، والمهجع الجديد رقم 2. تخيَّرْتُ سريري الفوقي المحاذي لغرفة معلم الداخلية الذي كان زميلنا بالطبع، حتى أختلس وأسترق لحظات بفضل الضوء الخافت المتسلل من نافذته، فأقرأ صفحات من كتاب أخفيته في السرير إذ القراءة ممنوعةٌ آنَ نلجُ قاعة النوم بعد أن نكون قد تعشينا وراجعنا دروسنا، أو كتبنا، وأنجزنا تمارين في الرياضيات، أو حرَّرْنا موضوعا إنشائيا بالفرنسية أو بالعربية داخل أقسام مسائية يشرف عليها حارس الداخلية، أو أحد المعيدين، ومعلمو الداخلية.
علمتني حياتي الجديدة، الانضباط، والنوم المبكر، والإفاقة مع صياح الديك: ديك بل ديوك مدير الثانوية. وعلمتني النظافةَ والاهتمام بهندامي على بساطته، وتلميع حذائي، ثم الاصطفاف العسكري لتناول الفطور، والذهاب إلى الدرس. وأفَدْتُ من إقامتي « الجبرية « إفاداتٍ لعل أهمها: قَرْض الكتب، وقضم محتوياتها في وقت وجيز بين السادسة والسابعة والنصف مساء. ولعل أهمَّها أيضا: انشحاذ وعيي السياسي والإيديولوجي، واستئناف نشاطي النضالي، وانخراطي في « خلايا « المؤسسة السرية، تمهيدا لتنظيم وإطلاق الإضراب تلو الإضراب. فلم تكن الإضرابات تهدأ. ولم يكن يلوح في الأفق ما يجعلها تنتهي وتهمد، لينصرف كلٌّ إلى عمله ودرسه وتحصيله. فالمرحلة كانت تغلي، والحرائق مشتعلة في كل مكان. إننا في السنوات الأولى من سبعينات القرن الماضي. النقابات مُشَمّرة، والحكومة مكشّرة، وأحزاب اليسار مستنفرة، وفي مقدمتها: حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. رشّنا منها رذاذٌ، وبلّلَنا صدى وانبعاثٌ. بلْ وصلنا شواظ النار الحامية، بل لهيبُها، بل اصطلينا نارها، فدخلناها، ولم تكن أبدا بردا وسلاما علينا ـ نحن التلاميذَ ـ الذين كانوا يطيرون في كل اتجاه، ويميلون « حيث مالت الريح «.
لم تكن برداً وسلاماً بدليل ما عرفناه وعشناهُ وعانيناهُ من جَلْدٍ وضربٍ مبرَح، وَفَظاظَة في تعامل « قوات التدخل السريع « معنا. فكيف أنسى ضربنا، وتشتيت شملنا، ليلاً، ذات أربعاء باردة في منتصف شهر فبراير 1972: أربعاء الدماء.؟
اقتحمتْ « القبعات السود»، قبعات الشؤم السوداء، والجزمات الحاقدة، مدججة حتى الأسنان بعِصي وهروات الكاوتشوكْ الأليمة الموجعة، الثانويةَ، بطلب من مديرها الذي فشل في إرغام الداخليين على تناول وجبة العشاء، والكف عن ترديد الشعارات السياسية المناوئة، وتدجين الوفد التمثيلي. استباحت حرمتها وكنا ببيجاماتنا بعد أن اخذنا دوشا سريعا كما اعتدنا مساء كل أربعاء.
انخرطتُ في المعمعة، ونلتُ نصيبي من الضرب والهرب والملاحقة. وصرت بعدها، مع صَحْبٍ قليل من زملائي، ناطقا باسم الداخليين، ومنسقا مع زملائي « الخارجيين « ( عبد الله بوشتاوي، ومحمد عبيد، وآخرين )، ومع تلاميذ ثانوية عمر بن عبد العزيز العلمية. في إطار من الانسجام والالتحام بيننا حتى نتمكن من إيصال صوتنا ومطالبنا، وإيقاف الدراسة على رغم تسلل الضعاف بيننا، والخائفين، إلى الأقسام.
كانت حيرة المدير، والحارسين العامين المرحومين: سّي عمر، وسّي محّانْ، كبيرةً. فبقدر ما يزداد تهديدهم لنا بالفصل من الدراسة، بقدر ما يزداد هديرُنا ونضالنا، وإمْعانُنا في العناد والتحدي والمُكابرة.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 09/07/2021

أخبار مرتبطة

  قد تحمل الحرب الإسرائيلية الجارية علnى قطاع غزة  المفكر المغربي المعروف عبدالله العروي على التفكير في كتابة الجزء الخامس

تعني الكتابة في ما تعنيه، أن تتواجد في مكان آخر بينما أنت قابعٌ في مكان مّحدد المعالم، أي أن تكون

يرتقب أن تستقبل مؤسسة»أرشيف المغرب» معرضا خاصا بمسار عبد الواحد الراضي، القيادي الراحل في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وقبله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *