ظلم متعدد الأوجه : رواية «عام الفيل» للكاتبة المغربية ليلى أبو زيد

 

الكاتبة ليلى أبو زيد معروفة بعصاميتها. على مهل فرضت ذاتها ووجدت لها موقع قدم تحت شمس الإبداع الأدبي بين كوكبة الكتاب الكبار. تقول إنها حققت ذلك دون أن يكون وراءها لا إعلام يسوق لها، ولا حزب يدفع بها نحو الأضواء، ولا أية مؤسسة. قليل من كان يسمع بها داخل بلدها المغرب. علما أن شهرتها بلغت مداها بالأوساط الأنكلوسكسونية وفي أمريكا وبريطانيا،على غير دأب الكتاب المغاربيين الذين عادة ما يقف بهم مركبهم على شواطئ الفرنكفونية.
كانت أول امرأة مغربية تتحدى الحواجز الاجتماعية والدينية، وتقتحم جنس كتابة سيرتها الذاتية «رجوع إلى الطفولة» بالانجليزية، إذ كانت وقتها حصرا على الذكور، دون الإناث لما فيه من حرج بالنسبة للكاتبة نفسها ولأسرتها وعائلتها.
تقول بأن النسخة العربية ظلت لمدة عامين وهي في الدرج تتردد في إخراجها للوجود. فروايتها «عام الفيل» ترجمت إلى الإنجليزية في وقت مبكر. من يومها وهي تدرس في عدد من الجامعات الأمريكية والثانويات.
الرواية من خلال حكاية بطلتها «زهرة» التي رغم شبه أميتها، انخرطت في مقاومة الاستعمار الفرنسي بجانب زوجها كتفا بكتف، وهي التي قبل ولوجها ساحة النضال كانت مولعة بالمجوهرات والألبسة والأقراط الذهبية، فكان مشهد خروج جنود اللفيف الأجنبي من الثكنة وشروعهم في إطلاق النار على المواطنين عشوائيا، سببا لتنقلب حياتها كليا. كانت مذبحة شنيعة شملت الرجال والنساء وحتى الأطفال فكانت «الجثث على الأرصفة كصناديق
القمامة» ص36 تقول زهرة «من يومها فقدت التعلق بالحياة وبريقها» في سبيل مقاومة المستعمر الغاشم ف»بعت شجرات الزيتون والمجوهرات وكل شيء عن طيب خاطر» ص34. فما تؤكد عليه الرواية بمرارة، وبمهارة استطاعت الكاتبة أن ترصده، هو الظلم الذي لحقها مباشرة بعد الاستقلال، وكأنها، بإسهامها في الجري وراء تحقيقه و التضحية من أجل نيله، كانت تحفر قبرها. المسكينة لم تكن تعلم أن خيوط كفن علاقتها بزوجها في الغيب تنسج. وللإشارة فزهرة نموذج فقط للآلاف من النساء أمثالها، على امتداد البلاد التي ابتليت بالاستعمار الظالم.. فكان الظلم عليهن أشد وأقسى من عدة وجوه.

أوله ظلم التاريخ:

يقال التاريخ يسود بياض صفحاته الغالبون. للأسف التوثيق لتاريخ المقاومة لم يسلم من هذه الآفة. إلى اليوم لا يزال إسهام المرأة في النضال ضد المستعمر، تشوبه الكثير من العتمات، بما أن الذكور، في العادة، هم من يتولون تدوينه. فقد حجّموا دورها وقزموه عنوة فحصروه في بعض الأعمال البسيطة كالسقاية وتهيئة الطعام للمقاومين، وفي أحسن الأحوال نقل بعض الأسلحة الخفيفة كالمسدسات، فيما البطولات والخوارق والمعارك والحاسمة التي غيرت مجرى تاريخ الأوطان، كلها توثق في سجل التاريخ باسم الذكور لغاية في نفس يعقوب.
الرواية باقتدار تبرز أنه لا فرق بين النساء والرجال في ساحة المقاومة. ففضلا عما سبق
مما اعترف به الرجال على مضض، فإنها سطرت ملاحم بطولية لا تقل خطورة عما كان
يقوم به صنوها الذكر. فقد كانت تتولى تنظيم التجمعات النسوية بالأحياء في سرية، وتتولى توزيع المناشير، وما أدراك ما توزيع المناشير يومذاك، إبان سعار المستعمر المستعر على وقع اشتداد ضربات المقاومة عليه، كما تولت تهريب الرجال في زي النساء إلى المناطق
الحدودية المعروفة مرورا بنقط تفتيش خطيرة. كما كانت تتولى جمع التبرعات للمقاومين، والتحريض على الإضرابات، وحتى حرق متاجر الموالين للمعمرين. في ص 61 وصف لإحدى العمليات، وكأنك تتفرج على أحد أفلام «الأكشن»، لما نزعت فلينة قنينة البنزين حتى تدفقت، وأشعلت عود الثقاب لتشتعل النيران في الصناديق، وأطلقت ساقيها للريح هي وصديقتها رقية، أعقبتهما القوات المسلحة بكلبهم بحثا عنهما. تقول ولولا اختلاط روائح
التوابل وأدخنة بائع الحلزون والحريرة على الكلب الذي ظل يدور على نفسه دون أن
يهتدي إلينا، لكنا في خبر كان نحن وأهل البيت الذي لذنا به عند هروبنا.

ظلم زوجها المناضل:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند «ستصلك ورقتك وما يخوله القانون» تكررت هذه العبارة مرات عديدة على امتداد صفحات الرواية، وعادة ما تُعقّب عليها بالوقاحة أو النذالة. إنها تلخص التيمة الرئيسية في الرواية.
فقد كان وقعها على نفسية زهرة بطلة الرواية شديدا، ومن خلالها الآلاف بالبلاد المتخلفة خاصة في فترة الخمسينات التي تتحدث عنها الرواية، قبل ما عرفه ملف الطلاق من تعديلات تقيد نسبيا طريقة إتمامه، وتخفف من آثاره المدمرة، لما كانت تتوصل المرأة بورقة الطلاق حتى بدون سابق إعلام، وبدون أبسط الحقوق. فبين صبح وعشية كانت تجد نفسها عارية من كل شيء. ذلك ما وقع لبطلة الرواية. فبعد أربعين سنة من الزواج بحلوها ومرها، وبعد تضحيتها بكل ما كانت تملكه، ضخّته في صندوق المقاومة، كان جزاؤها مباشرة بعد الاستقلال وتقلد زوجها المناضل لمنصب سام في الحكم، التنكر لها واستبدالها بأخريات كما لو أنها جورب. إذ صعقها بهذه العبارة الزلزال «ستصلك ورقتك وما يخوله القانون»، ظل صداها يتردد في أذنيها ويمزق أحشاءها بقية حياتها، لا لشيء سوى لأنها أصرت على الوفاء لأصالتها. لم تستسغ أن تغير جلدها كما فعل هو من النقيض إلى النقيض. تقول له في ص91 «لا يعجبك أن آكل بيدي؟ وبماذا كنا نأكل في بوشنتوف؟ هل هذا هو الاستقلال؟ ولا يعجبك أن أجلس مع الخدم؟ باسمهم حاربنا الاستعمار، وأنتم الآن تتصرفون مثله». ليصل حنقها وغضبها إلى ذروته، فتعلنها مدوية في وجهه صارخة:«أنتم أشد خطرا من الاستعمار». قالتها له بعد أن صفعها بسبب انتقادها له.
إنه يريدها أن تأكل بالشوكة، وتقدم السجائر لضيوفه، وتمهد له الطريق بكل الوسائل،
وتلبس اللباس الأوربي، وتخاطب الخدم بتعال من فوق. ولما رفضت ذات حدث خرج غاضبا و هو يردد: «خير لك أن تعودي إلى الكوخ». ص103، علما فهو نتاج خالص لحياة
الأكواخ وشظف العيش. فهل تحقيق مواكبة تطورات العصر لا بد أن يمر عبر جسر التخلي
عن قيم المجتمعات الأصيلة؟
فموقفه من زوجته زهرة يطرح أكثر من سؤال حول ما إذا كان التخلص منها هو رغبة
أكيدة للتخلص من ماضيه وقطع أية صلة تربطه به؟ أم هل هي عقدة العقد في علم النفس
المعروفة بقتل الأب. فقد نسي أو تناسى كل ما عانته من أجله، علاوة عما تكبدته في سبيل
الوطن. فقد تبعته إلى السجون «اغبيلة» و«العادر» راكبة كل المخاطر، لتزوده بما يحتاج
إليه من مؤونة، والأخطر مده بآخر الأخبار كقولها في ص 75 بأن ابن يوسف في الطريق
إلى فرنسا وبوقوف اليسار الفرنسي بجانب المقاومة، لينبهها الحارس بصرامة قائلا: «الكلام في السياسة ممنوع».
لم تشفع لها كل تضحياتها الجسام. بضع كلمات عصفت بحياتها وقلبتها رأسا على عقب، لما وجدت نفسها في العراء ضائعة مجردة من كل شيء. تهيم في الطرقات ناسية حتى أيام الأسبوع، وهي تتساءل بمرارة بعدما وجدت نفسها مضطرة لتشتغل عاملة نظافة بمركز فرنسي»قمت بمهمات من أجل الوطن. ما الذي يقوم به الوطن الآن من أجلي؟» ص41
وتردف حانقة «بلد لا يضمن لي لقمة العيش ليس بلدي» ص 88 في تعقيب لها لما عزمت ترك بلدتها. فالمؤسف حقا لو قلبنا المعادلة لنرى كم من النساء، ممن يتقلدن المناصب السامية، فيعمدن إلى تغيير أزواجهن للقطع مع ماضيهن، مقارنة بالذكور؟ !

الانقلاب ضد المبادئ:

الرواية بمرارة، ترصد كيف تحول الكثير من المناضلين ذكورا وإناثا مباشرة بعد الاستقلال
إلى طلاب مناصب ومهرولين نحو المكاسب. ففضلا عن زوجها الذي دار دورات مكوكية على كل مبادئه، وتنكر لها بعد أربعين سنة من الزواج، هناك شخصية الفقيه لما عين قائدا، ففضل أزيلال على القنيطرة، والعذر أعظم من الزلة يقول مخاطبا زوجته: «في أزيلال على الأقل ينتفع الإنسان.. ستشبعين دجاجا وبيضا». فعلقت زهرة بطلة الرواية ساخرة «غدا تجدينه يدخن الغليون أو سيجار هافانا.. فقد لعب الاستقلال برؤوسهم» ص106.
نموذج آخر هذه المرة نسائي رفيقة دربها في النضال صفية تقول عنها: «ما أشد غموض الناس وأشد تلونهم! صفية مدت يدها إلى الودائع، زوجي اقتلع من نفسي الثقة وأرسى مكانها الشك إلى الأبد» ص 85.
إنها علامات استفهام حول الهدف من النضال. أي نضال كان. ومن أي تيار كان. سؤال لا بد من استحضاره، حول نسبة الصدق في الشعارات المعلنة مهما كانت طهرانيتها، أم دائما وراء الأكمة ما وراءها. وطبعا لكل قاعدة استثناء. ولعل هذا ما دفع الكاتبة لتعلن حربها
على الانتهازيين، فخصت بالإهداء «الذين عرضوا حياتهم للخطر من أجل المغرب، نساء ورجالا، ولم يبغوا من وراء ذلك جزاء ولا شكورا»

ظلم المناصب والمكاسب:

«لو كنتُ رجلا لكنت قائدا أو على الأقل شيخا. إننا نرد إلى الظل عنوة بعد كل ما كان»
ص106. صرخة مدوية من بطلة الرواية زهرة في سياق تذمرها من البحث عن شغل تسد به رمقها. تحكي أحد المواقف المذلة مع أحد حراس مصنع للزيوت رفقة رقية رفيقة دربها في النضال، إذ منعهما بعجرفة من مقابلة مدير المصنع، لما قال لهما بدون أن يرف
له جفن: «لا يوجد عندنا عمل» فردت عليه غاضبة: «لن تجد أشد بغضا للبؤساء من البؤساء أمثالهم»، ومنه إلى مصنع آخر لكن بدون جدوى. فهل هناك حقارة ودونية أكثر من أن ترى رفاق الدرب في المقاومة من الذكور يتولون المناصب السامية، يرفلون في النعيم، بأجور خيالية وسيارات فارهة ومساكن فخمة وسلطات واسعة، أما هي ومثيلاتها دار بهن الزمان، فلم يجدن ما يواجهن به حتى ضرورات الحياة. فزهرة لما رفضها زوجها الذي لم تسمه الكاتبة في الرواية نكاية فيه، لم تجد غير فقيه البلدة لجأت إليه في البداية ليطعم جوعها «بكأس من طين فيه ماء وبخبز شعير وقرطاس فيه زيتون أسود» وفراش بسيط وحصير. ص21. فهل من مقارنة بين الذكور والإناث في ظل الاستقلال، وقد كانوا كما يقال «كفرسي رهان» يتساوون في الكفاءة والمقدرة والتضحية ضد المستعمر؟
ترى هل لهذا السبب عمد كتاب التاريخ من الذكور، ليهمشوا دورها ويقزموه ليستأثروا دونها بالمكاسب والمناصب، تاركينها لذل السؤال والإهانة من أجل لقمة عيش؟
رواية «عام الفيل» على قصرها (128 صفحة)، ففضلا عن موضوعتها الرئيسة ظلم الرجل متعدد الأوجه، فهي حافلة بالمواقف نشير إلى بعض منها على سبيل التمثيل:
الموقف من الاستعمار، إذ تتساءل زهرة بطلة الرواية في ص61 «ربي هل نسي ما تصنعه بنا فرنسا؟ …أثخنتنا جراحا حتى تصورت أن بيننا بحارا من دم .. لم أتصور أن تربطنا بها العلاقات والمعاهدات وأفواج المهاجرين. لم أتصور. ولكن هناك من قال: نحن آذيناهم وأن الأمم العظيمة لا تقبع في الماضي» تورد هذا وكأنها تلمز إلى الذين بجرة قلم، يدوسون على ماضي الاستعمار الدموي، ليساووا بين الضحية والجلاد، فيعمدون إلى تبييض صفحاته الكالحة.
رأي في السياسة لما تذكر في ص 53 «تلك اللئيمة تدخل بين الناس وتفعل ما لا يفعله إبليس» في سياق ما حدث بين رفاق الكفاح من انحلال وخصومة.
رأي في الواقع البئيس تقول في «في الأزقة شبان أكتافهم العريضة مسندة إلى الحيطان المتداعية. ينتظرون ماذا؟ وفي الضريح مازال الشيخ يخطط للنساء و الرجال.
بلدة تموت وتقاوم بالأمل والخوارق» واللافت للانتباه أن مشاهد من هذا الواقع لا تزال بين ظهرانينا، رغم الفارق الزمني بين الحاضر والخمسينيات من القرن الفائت زمن الرواية. فالرواية وثيقة تاريخية هامة وشهادة حية توثق لأنواع أخرى من الحيف يلحق المرأة، قلما تتناولها الأقلام بالتحليل والدراسة.


الكاتب : إعداد: بوسلهام عميمر

  

بتاريخ : 19/05/2021

أخبار مرتبطة

  قد تحمل الحرب الإسرائيلية الجارية علnى قطاع غزة  المفكر المغربي المعروف عبدالله العروي على التفكير في كتابة الجزء الخامس

تعني الكتابة في ما تعنيه، أن تتواجد في مكان آخر بينما أنت قابعٌ في مكان مّحدد المعالم، أي أن تكون

يرتقب أن تستقبل مؤسسة»أرشيف المغرب» معرضا خاصا بمسار عبد الواحد الراضي، القيادي الراحل في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وقبله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *