عام من العزلة 2: مصطفى مَلَح: ما زلنا على قيد الحياة

ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».

 

الموت

ثلاث مئة وخمسة وستون يوما، بل أكثر، من الإقامة في وجود لا يختلف كثيرا عن العدم. في شهر آذار تَيْنَعُ المراعي وتخصب الحقول، لكن آذار المنصرم كان استثناء؛ إذ نشرت الجائحة جناحيها الأسطوريين على الكوكب الأزرق، وتغير كل شيء.
اختبأت الفراشات تحت سقف الخوف، وأصيبت القريحة بكسور يصعب ترميمها، وصارت المسافات أصغر من كف اليد. حالة من الترقب والانتظار المميتين عاشهما العالم، ولأنني جزء من هذا العالم، أو على الأقل يُخيل لي بأنني جزء منه، فقد ألفيت نفسي محتجزا داخل قفص إجباري يسمى بيتا، وزنزانة ضيقة تسمى جسدا، وتغيرت عاداتي، وصارت لي عين ثالثة للرؤية، وحاسة سادسة للاستشراف. لم يعد بإمكاني الخروج، ولا شم رائحة البحر، ولا التسكع في أراضٍ أصبح الاقترابُ منها مثل الاقتراب من خطّ التماسّ في جبهة الحرب. لم أستطع التكيف مع ما يحدث، بل استسلمت مهزوما، مثل محارب عجوز، للغزاة الذين لا يُرون بالعين المجردة؛ انهزمت كليا أمام جبروت الفيروس، ورفعت الراية البيضاء.
كنت أسمع أخبار الموت، وأعد الموتى والمصابين، كما لو كنت ألعب داخل تطبيق إلكتروني. غير أنني كنت على يقين بأن الموت قادم لا محالة، وأنه قاب قوسين أو أدنى، وأن المناجل الوجودية السادية التي تحصد آلاف الأرواح من وراء البحر، لا بد أن تصل إلى الديار، لتحصد الأصدقاء والعائلة، وتحصدني أنا كذلك؛ أنا السارد، والميت الواقف في الطابور منتظرا النهاية الوشيكة.
تأملت بعين ثالثة ما يحدث. العبث هو القائد المظفر في معارك الحياة. وحمل إليّ التلفاز صورة طفل في إحدى المدن الإيطالية، قد ماتت أمه بفيروس كورونا. لقد أخبروه بأن أمه ارتفعت إلى السماء، لذلك كان يرفع رأسه إلى الأعلى متضرعا باكيا قائلا: عودي يا أمي من السماء!
كم يحتاج الأطفال من سنوات ضوئية ليدركوا بأن أمهاتهم اللاتي متن لن يعدن من السماء؟

مراوغات زرقاء

نكاية في ما حصل، وفي ما يحصل، انخرط معظم زملائي في بناء جسور مضادة للموت؛ كانوا يبنون قيما وقصائد وتحيات ومشاعر وينشرونها في الفضاء الأزرق. ربما الفايسبوك هو الترياق الوحيد الذي كان بإمكان المرء استعماله. إنه يشكل، داخل هذا الجفاف الروحي الوحشي، زهرة البلسم التي لا تنمو في العتمة. كانت القصائد تتناسل، والتعازي تتراكم، والدموع تسيل، والأمل يولد من بين الرماد. حاولت أن أكون جزءا من صناع الأمل، وجزءا من زارعي أزهار البلسم، غير أنني كنت عاجزا تماما. الأصابع مشلولة والنقر على لوحة الحروف الإلكترونية يشبه إدخال اليدين في فوهة بركان.
إن أشدّ ما يؤلم النفس هو سماعك لأخبار الموت، بل إن الشاعر يتحول إلى باحث عن عبارات تليق بعزاء مبهج، كما لو كان الموت احتفالا، وموت الأصدقاء سفرا من مدينة إلى أخرى، والجراح التي تثقب الأجساد ليست إلا حناء تخضّب البياض بألوان الجمال.
ولكن الذي لا مراء فيه، والذي يمثل اليقين الوحيد، هو أن الأبجدية حداد مستديم، والخيال خيمة من الورق المقوى تتمزق، والأفكار عصافير تصاب برصاص لا أحد يعلم من أين يأتي.
في الفايسبوك تُنصب مراسيم العزاء، ويبحث الشعراء كل ليلة عمن فقدوا في المعركة الغامضة، وتأبى الذاكرة إلا الاحتفاظ بصورة مشرقة لذكريات عشناها يوما ما، قبيل الكارثة: صورة جندي يصنع شارة نصر فوق تل، أو صورة عاشقين يبتسمان بدون تحفظ، أو صورة أطفال يلعبون الكرة في ساحة المدرسة، أو صورة أفواه مفتوحة تنشد أشعارا أمام مكبرات الصوت، صورة شابين في ليلة الزفاف، أو صورة شمس تشرق فوق السنونو والكناري والسمان.. إلى متى تنجح الذاكرة المتفائلة في مراوغة الصراط وإيقاف الينابيع المميتة؛ الينابيع الجائعة؛ الينابيع المتدفقة بالعطش؟

مازلت حيا

أخيرا، وبعد مضي أشهر، لم يعد بمستطاعي أن أظل محايدا. شرعت أراوغ الموت بجسد خفيف وقلب عنيد. أفكر في الموتى، والمرضى، والخائفين، والبؤساء، ثم أفكر في البلاغة؛ هذه التي ابتليتُ بالانتساب إليها. أي بلاغة تعوزني لأكتب الحياة وأنا أقيم، استعاريا، بين الهياكل والجثامين؟ لا بد من أن أكتب شيئا ولو بأظفاري وعظامي وأنفاسي. وهكذا ألفيتني أكتب ما أسميته الدرجة الصفر من البلاغة، وأقصد بها النصوص الأقل ثقلا، والأكثر تحررا من الأصباغ الجمالية الممقوتة. كان الرهان أن أعيش بأي ثمن، وأن أكتب بأقل تكلفة بلاغية. بعد مكابدة وعذاب وفتح لأنفاق وإضاءة لعتمات استطعت أن أنهي ديواني الشعري الأخير موسوما بعنوان: (ما زلت حيا).
إن الحياة، في حد ذاتها، هي انتصار للكائن، بصرف النظر عن طبيعة تلك الحياة وموقعها الطبقي. أن تعيش يعني أنك تحرز الجائزة الأكثر رفعة في العالم. هل حقا نجحنا في أن نكون أحياء؟
في خضم اليم هذا كان منسوب العتمة يزداد، وكنت غير مؤهل لأكون متفائلا مثل أي عصفور لم يفقد الأمل يوما في العثور على دودة أو حبة قمح. كانت حياتي، رغما عني، عتمة متصلة. وفكرت في تحويل العتمة إلى انطلاقة جديدة ومفاجئة خارج الشرنقة. ها أنا أكسر جدران شرنقة وسقفها، وأخرج. أشم رائحة الحياة كأنني أشمها لأول مرة. لن أبالي بشبح كورونا، ولن أستسلم لها. سأكون محاربا حقيقيا. أفتح حاسوبي، أختار الخط الذي يروق لي: (bahij louts) أو naskh) (traditional . ثم أبدأ في رقن خيالي..
لا بد من هزم العتمة. أتخيل شخوصا وأصنع لها وضعيات، وأرسم أمكنة وأهندس لها أبعادا ومساحات، وأضخ دم الشمس في قلب العتمة. أخيرا تمكنت من كتابة رواية منحتها عنوانا وهو: (أسرار العتمة).
الجائحة لم تنته بعد، وقد لا نكون قد انتصرنا عليها، غير أننا يكفينا أننا ما زلنا على قيد الحياة!


الكاتب : إعداد: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 15/04/2021