في الذكرى 125 لميلاد قيدوم الروائيين الأمريكيين وليام فولكنر

يُعتبر الرّوائي الأمريكي وليم فولكنر من أكثر الكتّاب الأمريكييّن حضوراً وتأثيراً في الآداب الامريكية والعالمية خلال العقود الستّة الفارطة، كما أنه ما زال يعتبر مرجعاً أساسياً لا محيد عنه في كتابة الرواية على وجه الخصوص، ويشهد له بذلك معظم الرّوائيين العالميين الكبار في بلده أمريكا، وفي أوربا وفي بلدان أمريكا اللاّتينية، و في سواها من مناطق العالم، ولقد احتفلت بعض الأوساط الأدبية في هذه البلدان في المدة الأخيرة بذكرى ميلاده 125، حيث كان قد وُلد في 25 شتنبر من الشهر الجاري عام 1897 بنيو ألباني، مسيسيبي، وتوفّي في 6 يوليوز 196

البقاءَ في ظلّ التاريخ

كان وليم فولكنر قد مات على إثر أزمة قلبية ألمّت به بعد أيامٍ قليلة من وقوعه من على ظهر حصان. وبمناسبة مرور 125 عاماً على ولادة أحد عمالقة الرواية في القرن العشرين، كانت دار النشر الإسبانية الشهيرة «الفاغوارا» قد أصدرت باللغة الإسبانية روايته «لبيت» التي كانت قد صدرت لأوّل مرّة عام 1959، وقام بترجمتها إلى اللغة الاسبانية خوسّيه لويس لوبث مونيوث. كما كانت قد أصدرت دار النشر نفسها كتاباً له بعنوان «رسائل مختارة» كان قد انتقاها جوزيف بلوتنر وقام بترجمتها إلى الإسبانية كلٌّ من ألفريد سارغاتال وأليسْي رَامُون.
هذه الرسائل تلقي الضوء على فولكنر الرجل والكاتب ، كما تقدّم لنا سيرة ذاتية مُكرهة نشرت بدون إرادة الكاتب الذي كان دائماً يوثر البقاءَ في ظلّ التاريخ، ويفضّل العزلة والابتعاد عن الضجيج والصّخب وكان يتوق أن يكون منسيّاً وممحيّاً بممحاة التاريخ – كما كان يقول لأصدقائه الأقربين- إلاّ أنّ أعماله الروائية، وإبداعاته الأدبية، وقرّاءه، ومعجبيه لم يمكّنوه من تحقيق ذلك. يؤكّد النقاد والدارسون لاعمال فولكنر أنّ هذه الرسائل المختارة بعناية فائقة المُدرجة بين دفّتي هذا الكتاب الذي يقارب الثلاثمئة صفحة لم تكن ذات طابع أدبي وحسب، ولم تُكتب بهدف النشر، بل إنها كُتبت بطريقة عفوية أو تلقائية مباشرة من دون رقابة ذاتية، ولهذا السّبب تعتبر هذه الرسائل باباً مفتوحاً على مصراعيْه على حياة فولكنر الخاصّة والحميميّة، كما أنها تقدّم لنا تصوّراً تدريجياً عن تطوّر أعماله وعوالمه الروائية، وعن شكوكه الخلاّقة، واختياراته الجمالية وقناعاته الإستاطيقية وصلاته بالأوساط الأدبية، وعالم الكتّاب والمبدعين، والناشرين والنقّاد، وعن تطوّر محتويات ومضامين العقود التي كان يوقّعها مع الناشرين حول كتبه ورواياته على مرذ الأعوام .
هذه الرسائل تميط اللثام عن حقائق مثيرة، وأخبار مُذهلة، ومعلومات طريفة حول فولكنر، فهي تؤكّد لنا أنّه حاول جهده أن يكون آخرَ من يوفّر لنفسه حياة خاصة، كما تبيّن لنا بشكل جليّ كيف أنّه كان يرفض بشدّة الانخراط أو المشاركة في الأنشطة والتظاهرات والتجمّعات العمومية، كان يعتذر حتى عن حضور حفلات تقديم كتبه، أو المشاركة في مراسم تسليم الجوائز الأدبية، أو الميداليات التكريمية التي كانت تُمنح له تقديراً لأعماله الإبداعية الفريدة، ومعروف عنه إنّه كان في بداية الأمر قد أبى وامتنع عن السّفر إلى استوكهولم لتسلّم جائزة نوبل في الآداب عام 1949، إلاّ أنّه في آخر المطاف حضر هذه التظاهرة الكبرى بعد أن ألحّ عليه العديد من أصدقائه ومعارفه، وبعد أن احتسى كميّاتٍ من الكحول، ألقى بصوتٍ خفيض بهذه المناسبة خطاباً لا يمكن نسيانه، سمعه الحاضرون في هذه الاحتفالية الأدبية العالمية بالكاد.
الناقد الإسباني سانتوس دومينغيس عند تحليله لهذه الرسائل يقول : «إنّنا واجدون فيها باريس مدينة النور والصّخب، والجنون، والهيجان، والغليان، كما نجد الملاحظات الدقيقة، والمميّزة للناشرين، وعقودَ وصكوكَ النشر، نجد قبالتنا كذلك المرحلة الزمنية التي كان فيها فولكنر يكتب السيناريوهات في هوليوود، حيث كان يتأسّف لكونه كان في ذلك الحين كاتباً (مرتزقاً)، في الوقت الذي كان فيه الأوروبيّون يعتبرونه كاتباً روائيّا كبيراً، بل إنه كان في منظورهم من أهمّ الرّوائيين في أمريكا. نلتقي في هذه الرسائل كذلك مع المفاوضات التي كان فولكنر يجريها مع دور النشر، ومديري المجلاّت لاستلام مبالغ مالية نظير رواياته وقصصه، إنه يشرح لنا فيها الطريقة التي كانت شخصيّاته تتحدّث بها حيث كان يُعزي هذه الطريقة إلى بلاغة أهل الجنوب، أو إلى فنّ الخطابة والإلقاء التي يكتسبها المرءُ من جرّاء العزل، أو إلى الكلمات والفقرات والجُمل التي تترى وتتكرّر والتي كانت ضائعة منسيّة، نجد «صيغاً بسيطة»، من قبيل «في حوزتي ما هو لك»، ومن الكلمات التي تتكرّر كثيراً في هذه الرسائل كلمة «الصك» لأنه بالإضافة إلى الجوانب الأدبية التي تعكسها هذه الرسائل فهي تطلعنا كذلك على الصّعوبات الإقتصادية والضائقات المادية الكثيرة والمتواترة التي كانت تواجه فولكنر، فضلاً عن مشاكله ونزاعاته مع إدارة تحصيل الضرائب. ففي بعض رسائله الاخيرة المؤرّخة في 29 يونيو 1962 نجده يطلب من صديقه لينتون ماسّي مبلغ 50000 دولار، وبعد أسبوع من ذلك كان فولكنر قد فارق الحياة.
هذه الرسائل التي أعدّها جوزيب بلوتنر كان قد استعملها في الأساس لكتابة سيرة ذاتية عن فولكنر، إلاّ انّه بعد ذلك نظراً للثراء الأدبي التي تحتوي عليه، وللقيمة التاريخية والادبية التي تتضمّنها بالنسبة للكاتب، وأعماله أمكنه إقناع ابنته ليأذنوا له بنشرها، ولم يكن يتصوّر أحد من معارف فولكنر، أو أقربائه، أو نقاده، أو قرّائه أنّها بهذا القدر من الرّوعة والجمال والعمق في التحليل ورصد دقائق الامور. تاريخ هذه الرسائل يتراوح بين 1918 و1962 وهي السنة التي مات فيها فولكنر .

وردة إلى إميلي

ضمن هذه الرسائل نجد النصّ المقتضب من السيرة الذاتية الذي ارتجله فولكنر في مستهل عام 1930 لتقديم كتابه «وردة إلى إميلي» يقول فيه: «إنّه وُلد في مسيسيبي، و أنه في سنٍّ مبكّرة هجر المدرسة وهو في الخامسة من عمره في القسم السابع، اشتغل في مَصرف جدِّه، وتعلّم الفوائد الطبية لمشروباته الرّوحية من الخمور، واعتقد الجدّ أنّ الذي قام بذلك الصّنيع هو البوّاب الذي عوقب بقساوة بالغة، وجاءت الحرب فراقته البذلة العسكرية البريطانية، فانخرط في لجنة (ر.ف.س) كطيّار ولكن سرعان ما تحطّمت طائرته، فكلّف الحكومة البريطانية 2000 ليرة إسترلينية، استمرّ في العمل طيّاراً، ثمّ تخلّى عن العمل في الجيش فكلّف الحكومة البريطانية 30.84 دولارا.
عاد فولكنر إلى مسيسيبي. وأمّنت له العائلة عملاً في إدارة البريد، ثم استقال من منصبه عن طريق الاتفاق المتبادل بين مفتّشين متهمين إيّاه بإلقاء كلّ البريد الذي معه في القمامة. كما لم يقدّم الدليل قطّ عن طريقة تدبيره للبريد المُرسَل. ولحقت بالمفتشين خيبة أمل فادحة، استلم 700 دولار، ثم هاجر إلى أوروبا، وهناك تعرّف على رجل يُدعى شروود أندرسن فقال له: «لماذا لا تكتب الرّوايات؟ فقد لا أكون بعد اليوم في حاجة إلى عمل، وأدرك ذلك بالفعل بـ»راتب جندي» ،و»البعوض»، و»الصخب والعنف» و»الملاذ». إنّه الآن في الثانية والثلاثين من عمره. ويملك آلة راقنة للكتابة التي يستعملها هو بنفسه».
تعالج رواية وليم فولكنر «البيت» إشكالية اندحار أو سقوط عائلة أمكنها التحكمّ في مصير شعب لمدّة جيل من الزّمان. ورغبة الانتقام لدى «مانك سنوبرس» المحكوم عليه لارتكابه جريمة قتل، والذي يحاول التخلّص من الحكم بسلوكه، وحسن سيرته لتصفية أحد أقربائه كان يدعى «فليم» الذي يتهمه بعدم تقديم النجدة له، في هذه الرّواية يجري ويدور الحديث عن الجنوب الذي استعمره الشّمال المبتذل، وتعالج في طيّاتها أشخاصاً ربما كانوا من أكثر الشخصيات تراجيدية، ومأساوية في جميع أعمال فولكنر، حيث كان هاجسهم حسب كلماتهم: «أن مشاكل القلب البشري في صراع حاد مع ذاته».

فلاّح من أقاصي الجنوب

ومعروف أن رواية وليم فولكنر «دخيل في الغبار» تبحث في تطوّر العلاقات بين البيض والزنوج، حيث يحكي لنا في هذه الرواية قصة عجوز أسود اللون يُدعى»كوكاس بوشامب» اتّهم بقتل رجلٍ أبيض، حيث يواجه خطر الإعدام. ويلحّ المحامي غاباين ستيفنس على تطبيق العدالة، ولكن العجوز الأسود المتّهم يرفض مساعدته.
يقول جوزيب بلوتنر في السيرة الذاتية الرّائعة التي أعدّها حول فولكنر: «إنّه ابن الجنوب الذي لا يمكن أن يفهمه إلا هؤلاء الذين وُلدوا هناك»، كان طالباً كسولاً، وبطيئاً، كطياّر بدون حرب فلا يطير، كشاعر محبط يهجر الشعر إلى النثر، ككاتب منسيّ مدّ له يد العون صديقه شروود أندرسن وشجّعه على الانطلاق في عالم الأدب، ككاتب سيناريو ثمل يقول: «إذا خُيّرت بين الويسكي والعدم لاخترتُ الويسكي»، وشعر بالفتور في هوليوود، وسئم من وضع الجُمل والكلمات في فم همفري بوغارت (الذي تألق في فيلم كازابلانكا الشهير الى جانب إنجريد بيرجمان) ، وفي أوروبا كاد أن يبجَّل عندما قال عنه الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر:» إن وليم فولكنر بالنسبة للشبّان الفرنسيين يكاد يكون معبوداً»، واحتفى صاحب رواية «الغريب» «ألبير كامو» بـ» حرارته وغباره» ، إنه الرجل الذي يفضّل أن يعتبره الناس فلاحاً مزارعاً وليس كاتباً، والذي ألقى الخطاب الأكثر اختصاراً واقتضاباً، ولكنّه الأكثر قوّةً وزخماً واعتبر من أحسن الخطب التي ألقيت في المؤسّسة السويدية المانحة لجائزة نوبل.
العالم الرّوائي المتخيّل الذي كان يدور بخلد فولكنر كان كذلك عالماً حقيقياً عن المقاطعة التي ينتمي إليها في أقاصي الجنوب الذي أبلى في وصفه البلاء الحسن، ونقله للعالم بإبداعاته الروائية الخلاّقة. أضف إلى ذلك وصفه للأدواح السلالية الباسقة، والأشجار العالية الشامخة في «سنوبس وكومبسون»، و»سارتوريس وساتبين» وسواها. ويقول جوزيب بلوتنر: «أعمال فولكنر تجاوزت : الواحدة والعشرين رواية، ثلاثة كتب في القصة القصيرة، كتابان حول الإبداع الشعري، والعديد من المصنّفات التي نُشرت بعد رحيله. فلنبدأ بالرّوايات الأكثر يسراً وسهولةً إنطلاقاً من «راتب الجنود» و»البعوض» (حيث يظهر لنا سكّير يحمل اسم وليم فولكنر الذي لا يتوقّف عن تثبيت نظره في كلّ إمرأة تمرّ من هناك) ومروراً بروايته الرائعة «الحرم» وقصصه القصيرة المدرجة في كتابه الرائع «وردة إلى إميلي» و»الدبّ»، ثم روايته «أبسلوم.. أبسلوم» التي نُشرت في السنة نفسها التي نُشرت فيها كذلك هلوسة الجنوب الأخرى الذائعة الصّيت»ذهب مع الرّيح» لمارغاريت ميتشيل عام 1936، والتي نُقلت إلى السّينما بنجاح باهرعام 1940. يقول وليم فولكنر «لو قدّر لي أن أعود لكتابة أعمالي لفعلت ذلك بطريقة أحسن».
يقول الكاتب إلايطالي المعروف إيتالو كالفينو( من مواليد لاهافانا كوبا): «إنّ فولكنر يضع كل اللحم على المشواة، ويركّب المآسي الكونية، ويقول لك إضحك على سوفوكليس». ممّا لا ريب فيه أن فولكنر يُعتبر اليوم واحداً من الزّوايا الأساسية التي يتّكئ عليها كلّ الأدب المصنوع في الولايات المتحأة الامريكية في القرن العشرين «. كما يعتبره ج. م. كوتزي:»أحد المجدّدين الكبار في تاريخ الآداب الأمريكية. لهؤلاء الذين يقرأون بعض روايات فولكنر مرّتين وثلاث مرّات ولا يفهمون شيئاً، يقول لهم فليعيدوا القراءة للمرة الرابعة».
الكاتب الارجنتيني (الضرير- البصير) المعروف خورخي لويس بورخيس الذي قام بترجمة بعض أعمال فولكنر والذي يمتدحه أمام الملأ، كتب عام 1937 يصفه ب» الإكتشاف أو الظهور الهائل فأنا لا أعرف مجاملة أكثر من هذه.»وعنه يقول على مسمع بلديّه الكاتب الأرجنتيني كذلك «بييُّو كاساريس» ساخراً من «تراكم الفظائع في أعماله»:»إذا كان شكسبير أعظم إمتياز أدبي، فإنّ فولكنر من أعظم الكتّاب في هذه الأيام» .

مُعلِّم الكِبار

من المعروف أن وليم فولكنر كان له تأثير كبيرعلى كتّاب الرواية في النصف الثاني من القرن العشرين على مستوى العالم، باعتراف روائيين كبار معاصرين له أو الذين جاءوا بعده، مثل الروائية الأمريكية «توني موريسون» وهي أوّل إمرأة من»السّمر» تحصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1993، والتي تخرّجت من جامعة «هوارد» في واشنطن بعدما قدّمت أطروحتها التي تحت عنوان : «الإنتحار في روايات وليم فولكنر، وفيرجينيا وولف».
وفي ما يتعلق بتأثير فولكنر في آداب أمريكا اللاتينية نجد الكولومبي الرّاحل غابرييل غارسيا مركيز (صاحب مائة سنة من العزلة) يقول : إنّ رواية «مدينة الأكواخ» لفولكنرهي أحسن رواية في أمريكا التي لم يكتب مثلها قطّ». وقال أيضا:»إنني أعرف وأعترف أن تقنية فولكنر هي التي أتاحت لي أن أكتب حول كلّ ما كان يتراءى لي».وقال كذلك في نفس السياق :» إذا كانت رواياتي جيّدة فذلك لأنّني حاولت أن أتجاوز وليم فولكنر في كتابة ما هو مستحيل وتقديم عوالم وانفعالات، ولكنّني لم أستطع أن أتجاوزه أبداً».
ويقول الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا(الحاصل على جائزة نوبل في الآداب كذلك) :» بدون تأثير فولكنر ما كان للرواية الحديثة وجود في أمريكا اللاتينية».وقال أيضاً: « تأثير فولكنر في أعمالي كبير للغاية، وضعه كتّاب العالم في مصافّ كبار الرّوائيين في القرن العشرين، إنه صاحب تقنية عالمية في كتابة الرواية، كما أنّه ابتكر حبكة جيّدة للقصّة، وأدخل إلى فنّ النثر الإثارة والتطلّع، وعوالم فولكنر تضاهي إلى حدٍّ بعيد عوالم أمريكا اللاّتينية: مجتمع زراعي وبدوي تتعدّد فيه مظاهر الإقطاع والإثنيات، و قد جعل هذا التقارب الكثير من كتّاب أمريكا اللاتينية يتأثرون به، وقد اكتشفته عندما كنت في ريعان الشباب، فأبهرتني طريقته في بناء الحبكة بمهارة، الأزمان المتناوشة عنده، فضلاً عن قدرته على خلق الأحداث وتشابكها، ليس هناك كاتب من أمريكا اللاتينية من الجيل الذي أنتمي إليه لم يتأثر بفولكنر بشكل من الأشكال «.. ويقول الكاتب المكسيكي الراحل كارلوس فوينتيس :»إنّ فولكنر يجمع بين مختلف الأزمنة، بل كلّ الأزمنة لحياة شخوصه في الزمن الروائي الحاضر». وهكذا فإن معظم باقي الكتّاب الكبار في أمريكا اللاتينية أمثال:كابريرا إنفانتي، وإرنيستو ساباتو، وخوان رولفو، وأليخو كاربنتيير، ورُووّا باستوس كلّهم عرّجوا على منزل فولكنر، كما أن هناك من يعترف صراحة أنّه في كل الأوقات كان يقرأ فولكنر وما زال يعيد قراءته بلهفة مثل «راينالدو أريناس»، ويشير الكاتب خوان كارلوس أونيتّي:» أنه يعتبره معلّمه، كان حاضراً بقوّة أكثر من أيّ كاتب آخر في الأدب وفى حياته منذ السنين التي لم يكن يحلم فيها بأن يصبح كاتباً».ويشير الكاتب «ريكاردو بيغليا:» أنه كان يقرأ فولكنر بنفس الإيمان الذي كان يقرأ به فولكنر نفسه أوليسيس».ويعترف هذا الكاتب أن قراءة فولكنر كانت من أعظم الأحداث في حياته..
ويقول عنه الرّوائي الإسباني خوان بونيت:» إن فولكنر هو الكاتب الذي نال إعجابي، وهو الكاتب الذي قرأتُ له أكثر ممّا قرأت لسواه، إنه دائم الحضور في حياتي، لقد أثّر في كل أعمالي مثل تأثير السّماء التي رأت قدومي إلى هذا العالم، إنه اللغة ذاتها لن أتخلّى عن قراءته أبداً، إنه يحفزني لمواجهة ما تبقّى من حياتي». ويقول عنه الرّوائي الإسباني المتوفّىَ مؤخراً خبيير مارياس:»إن كلّ من لديه الفضول للتعرّف عن عمق على الرواية في القرن العشرين في أيّ لغة كانت لابدّ له أن يقرأ وليم فولكنر «، ويتّفق على هذا الإطراء العديد من الكتّاب الإسبان الآخرين. ويعتبر فولكنر من أكثر الكتّاب الأمريكيّين الجنوبييّن أهميّة الى جانب مارك توين، وتنيسي ويليامز وآخرين، بل إن هناك من يعتبره من أعظم الرّوائيين في التاريخ.

إقرأ، إقرأ، إقرأ !

عندما بلغ وليم فولكنر الخمسين من عمره، ها هو ذا في لحظة زهوٍ وفخار متباهياً يقول – مثل أديبنا الكبير المرحوم عبّاس محمود العقاد- «إنني أعرف اليوم أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى لاوّل مرّة الموهبة التي حباني الله إياها دون ان أتلقّى أيّ تعليم نظامي، ودون أن أعتمد على أشخاص ذوي تربية عالية أو بالأحرى لديهم اهتمام بالأدب، على الرّغم من كل ذلك وصلتُ حيث أوجدُ الآن، لست أدري من أين جاءتني هذه المقدرة».
ينصح فولكنر الكاتب الجديد الذي يخطو أولى الخطوات أو العتبات في عالم الكتابة لأوّل مرّة:» إقرأ، إقرأ، إقرأ كلَّ شئ، القمامة، الكلاسيكيين، الكُتّاب الجيّدين، الكُتّاب الخائبين، حتى تكتشف كيف فعلوا هم ذلك، إقرأ، فإنك ستنتهي في الأخير إلى امتصاص كلّ شئ، ثمّ بعد ذلك، أكتب».
ويقدّم لنا فولكنر وصفته السريّة أو السّحرية حول مهنة الكتابة التي يزاولها، وهي في نظره وصفة سهلة الحفظ، ميسّرة التطبيق، إذ يقول :» أنتَ في حاجة فقط إلى 99 في المائة من الموهبة، و99 في المائة من الانضباط، و99 في المائة من العمل، أمّا الإلهام ؟ فأنا لا أعرف شيئاً عن ذلك، الحقيقة أنّني سمعتُ الحديث عنه، ولكنني لم أره قطّ، والروائي لا ينبغي له أن يكون راضياً عمّا يكتبه، ينبغي له أن يتوق دائماً نحو الأحسن قدرَ ما يستطيع، عليه ألاّ يحاول أن يكونَ أحسنَ من معاصريه أو خيراً ممّن سبقوه، بل عليه أن يحاول أن يكون أحسنَ من نفسه « !..قال عنه الأديب الفرنسي المعروف أندريه مالرُو : إنّ أصدقَ موضوعٍ يمتاز به فولكنر هو الشخص الذي لا يمكن إصلاحه، وهذا ما يفهم من شخصية « جو كريسماس» الذي يصرخ عالياً قائلاً :» إنني مُتعب من فرط الجري، ومن اضطراري أن أحمل حياتي كسلّة من البيض».

الزُّرق.. والرّماديّون !

ولد فولكنر سنة 1897 في ولاية المسيسيبي. ترك الدراسة بعد أن شعر بنوعٍ من الملل منها، ولم يحصل على تعليم نظاميٍّ عالٍ، ظلّ يتسكع هنا وهناك، واشتغل نجّاراً، ودهاناً وفى منجم ثمّ كموزّع بريد، وشُوهد وهو مُهمَل الخِلقة يطوي الأزقّة، ويذرع الشّوارعَ والدروب على غير هدىً، وهو يقرأ ويُصغي إلى أحاديث الناس، ويختلط بهم وبشكل خاص الزنوج، حيث حفلت بهم معظم أعماله الأدبية الروائية على وجه الخصوص، وقد كانت للحرب الأهلية الأمريكية بين الشمال والجنوب (موطنه) آثار كبيرة وجسيمة عليه وعلى أعماله الإبداعية، وبعد أن حطّت الحربُ أوزارَها حيث انتصر الشمال على الجنوب ألْغِيَ الرقّ بتحرير الزنوج الذين كانوا المحرّك الاساسي لإقتصاد الجنوب خاصة في زراعة القطن والقيام بالأشغال اليدوية اليوميّة الشاقة في مختلف الحقول والبيوتات. كما تأثر فولكنر بالحرب العالمية الأولى التي رأى فيها إساءة للإنسانية جمعاء، حيث عمل خلالها طياراً في سلاح الجوّ البريطاني وتحطمت طائرته مرتين لكنه نجا بأعجوبة من موت محقق .
عندما تسلّم جائزة نوبل قال فولكنر: « في عقيدتي أنّ الإنسان لن يبقى لمجرد البقاء. بل إنه لابدّ أن يسود.. إنه خالد. لا لكونه وحيداً بين مخلوقات تتمتّع بصوتٍ مسموع، ولكن لأنه يملك روحاً قادرة على إشاعة العطف، والحنان، والتضحية، والصّبر.. ومن واجب الشاعر والكاتب أن يكتب عن هذه الأمور». رماه أهل الجنوب بأنه يناصر الزنوج، وبعد عدّة مشاكل ومواجهات ومشاكسات اعتزل الحياة، وأقام في منزلٍ ناءٍ بمزرعة متواضعة في مقاطعة المسيسيبي.
أثارت أعمال فولكنر موجة من الإعجاب، كما أنّها كانت سبباً في إثارة العديد من النقم والانتقادات ضدّه كذلك.فقد واجه فولكنر إشكالية الشرّ الذي يعشعش في مختلف مناطق العالم، بما في ذلك الولاية التي ينتمي إليها ويعيش فيها، ويعكس أدبه مختلف الظواهر الإجتماعية التي لها صلة بالمظالم والتجاوزات والبؤس والشقاء والاعتداءات التي تفضي إلى أبشع الجرائم والرذائل. وفي روايته «الحرم» تتجلّى لنا هذه الصراعات والانتهاكات بمختلف الأشكال من اغتصاب وقهر وإحباط وتجنّي حيث تحفل هذه الرواية بالرموز المتناوشة حول أهل الشمال مجسّدة في الرّجل الذي يغتصب فتاة من أهل الجنوب، فالاوّل (الشمال) معتدٍ وآثم وعاجز، والثانية (الجنوب) لا قيمَ ولا خلاقَ لها، واعتبر فولكنر ما حلّ بالجنوب (ولايته) هو نفس ما حلّ بالعالم من ويلاتٍ وشرورٍ وأحقاد وفوضى خُلقية، وتفسّخ إجتماعي وخُلقي. وجاءت حياته وأعماله شاهدة على عصره وعلى التغييرات السياسية، والتحوّلات الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي طرأت على الجنوب الأمريكي من جرائم، وصراع، ومواجات وتطوّرهائل في مختلف مناحي الحياة سلباً وإيجاباً. وقد تُرجمت العديد من أعماله إلى اللغة العربية، كما نقلت بعض رواياته وقصصه إلى السّينما تحت العناوين التالية:»الاختطاف»، و» الاسترداد»»، و» أن تملك أو لا تملك» و»الجنوبي»، و»الحلم الخالد»، و»أرض الفراعنة»، و»الصيف الحار الطويل»، و»قدّاس لامرأة»، وسواها من الاعمال الروائية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس والقراء والنقاد على حدًّ سواء في كلّ مكان.

 

كاتب وباحث ومترجم من المغرب،عضو الاكاديمية الاسبانية الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا .


الكاتب : د. محمّد محمّد خطاّبي

  

بتاريخ : 30/09/2022