قراءة سردية في «سرديات تشكيلية» لشفيق الزكاري

إن ثقافة التشكيل داخل مجتمعنا، لا تحمل مرتكزات الاستجابة لما هو متداول على مستوى هذا الفن.. مما يطرح قابلية التلقي كإشكال معرفي يتجاوز قنوات الاتصال، علماً أن أولويته تفرض حتمية استنطاق مكامن الذات التذوقية، لتكسير الحدود الوهمية النابعة من عدم استقصاء هذا النوع من الفن.. إذ لابد من البحث عن كيفية تأسيس رؤية بكل احتمالاتها الإيديولوجية، والسياسية، والاجتماعية،وغيرها.. تضمن اتساع رقعته التنويرية بخلفية حركيته، وما تخفيه أشكاله المتعددة من بعد تخييلي فني، يجب أن يمر إلى المتلقي عبر آليات حضوره في مجال التعليم والمعرفة: مدرسية، أكاديمية، معاهد، مراكز وغيرها.. حتى يصبح كيانه مادة تثقيفية من حيث دلالات الألوان والخطوط والصورة ودورها السيميائي إبستيمولوجيا، لأن الفعل الأيقوني أو الرمزي يتخذ جادته في حياتنا الآنية من خلال الرؤية الخالقة لهذا الإبداع، ولا نستشعر حمولة هذه النافذة كما الفنان حين تتم ترجمتها تشكيليا. فالفن ينبغي حسب خوسي أورتيكا غاسيت «..أن يبحث عن عوالم شعورية مجهولة، فهو يحتوي على شيء من الواقع، ولا يفصح لناعن باطنه».
ضمن هذا المنحى، تبتعد بنا «سرديات تشكيلية» لتوفير هذه النافذة حضاريا، وإنسانيا ـــ «نافذة من الداخل» بتعبير بوزفور لمجموعته القصصيةـــ بعيدة عن التأريخ، وقريبة من النقد السردي، كما جاء بها في سياق استرسالية الحكي عن الفنان وعالمه « فكان هذا المعرض حدثا انتقاليا في المشهد التشكيلي المغربي، بانتقاله من موضوع جمالي لموضوع آخر يحمل موقف ومعني مع احتفاظه بكلا الخاصيتين. «إذن هو إقرار فعليّ بأن الكاتب ــ وعياً وإحساساً ــ ابن شرعي للمجال، ومهتمٌّ كمبدع.. إنه الأقرب منا في صياغة قوى سردياته التشكيلية وفق عملية تفكيكية سردية، ملامسةً منه وعيَ وشعورَ القارئ، كي ينعمَ هذا الأخير محاكاةً للمسرود، بصورة مركبة للفنان، دون أن تفقده خصوصية المتعة التي نهفو إليها جميعا من العمل التشكيلي. من هنا تتراءى له «أهمية منمنمات الواسطي لكونها مزجت بين التشخيص والخط لتقدم مشاهد مرئية وحكائية .. لحكايات لها بداية ونهاية..»..
هذه التركيبة السردية النقدية تستقي خصوصيتها من مفهوم الرواية بالمعنى الذي ذهب إليه سعيد يقطين في حديثه عن الراوي الذي يبين المسرود، أو المروي بكل شبكاته، وعدم إغفالها ككيانات وجودية بالمعنى التجنيسي. فلا يجب محاصرته باستقلالية المجالات عن بعضها البعض. وإنما الحاجة تفرض حتمية التماهي الحر دون قيود التصنيف، أو عبثيته، كي يَهبَ مساحة شاسعة للكائنات السردية، أو التشييئية بمفهوم لوكاتش، حين تتجاذب الفنان هذه الكائنات بما فيها ذاته. وهذا ما حاول الكاتب إثباته في سردياته «أردت لها أن تتناول أساليب الفنانين التشكيليين المغاربة والأجانب من منطلق سردي.» مادامت الرؤية الفنية موقعا للانفعال، والتخييل، والإدراك في آن واحد بحمولاتها المختلفة، بعيدة عن إعارة الاهتمام للتفاوتات المجتمعية.. أي أن الكاتب يدرك نسيج الوعي، والشعور بالخبرة الجمالية، والتقنية التي تميزها، كما هي عند باشلار «..صور معبرة.. تكمن في القيمة الفنية والتشكيلية للعمل». لذلك فهو في «سردياته» كيان يَعْبُر بذاته ومقوماتها كل شخصية كاللغة عند شتراوس «تستعمل لتشكيل كلامنا وللإعراب عن أفكارنا.. لإخراج ما هو مكنون في الروح وإظهاره إلى الخارج».
لقد اتخذت «سرديات تشكيلية» من هويات أوربية وأمريكية وعربية بؤر إحالاتها التعبيرية سواء داخل نسق ثقافي، أو بين نسق وآخر، حصيلةً للموضوع الذي تعبر عنه بمفهوم هايدغر.. إنها استراتيجية لوقائع واقع الفنان، ولكل ما يكتنف دواخله حتى يستقيم المعنى في فلسفته الجمالية من جهة الوعي بالعمل، كنتاج مباشر للإحساس الروحي به، كما يقره الاتجاه الشكلاني، وما يجعل الكاتب في صياغة متون سردياته الحكائية يتطلع إلى شخصنة الشخصية التشكيلية دون الابتعاد عما ساهم في بناء موهبتها الفنية.. فكان «غوك «..رفيقا للمرضى والفقراء «وكاهلو» كمنبع لإبراز المشاهد الخيالية المستوحاة من واقعها المعيش… وأعمالها الموسومة برمزية الأشياء في علاقتها بالوجود. وهذا يُبَرِّرسردية السرد التشكيلية التي اتخذها الكاتب، والتي تتقاطع مع رؤية بيرجسون للفن باعتباره حدثا وإدراكا حدسيا للفنان يتمكن به من رؤية الواقع، كحصيلة لعملية الخلق من قبله، ثم من قبل القارئ( الكاتب)، بناء على مقاييس ليس من شأنهما أن تكون واضحة، تجد ضالتها في»سرديات تشكيلية»على لسان كاهلو «لم أرسم أحلاما أبدا، بل أرسم واقعي الحقيقي فقط. والجعماطي «.. قامت تجربته بالاشتغال على المكان… فكانت مواضيعه مستمدة من هذا الوجود بطبيعته ومناظره». كما « تميزت تجربة الفنان وارول بثلاثيته المشهورة «الكراسي الكهربائية.. كموضوع مقلق لأداة.. تنفذ من خلالها عقوبة الإعدام».. هذه المقاييس موجودة بالقوة وبالفعل. حاول الكاتب كشف الذهني فيها حسيا، حين أضحى اعتقادُهُ أدواتِ لحمولة الصورة، أو اللوحة ككيان قائم بذاته، تم تحويله إلى الوجود اللغوي السردي ضمن بنيات تجسد كينونته التشكيلية. فالحيسن «كانت الصحراء وبكل تأكيد هي المنبع والأصل .. خرج منه، وتنسم رائحة الإبداع فيه» أما.. القطعة الفنية «عرس يهودي مغربي بطنجة» .. كانت هي مفتاح ولوج الفنان دولاكروا إلى عوالم الواقع المغربي، و( القرشال) الذي ترك بصمة واضحة (عند حجوبي).. نظرا لحضوره وتكراره في جل الأعمال..»
هذه المنافذ تبدي وجودية الفنان فكرا وعاطفة . فَ»الفن الذي لا يُحال على النظام الوجودي يصبح موضوعا مناقضا للواقع» في نظر هايدغر.. إذ تصبح هذه المنافذ نقط تمفصل مركزية، ومداخل أساسية عند الكاتب لمتون سردياته، يحيطها كل ما من شأنه أن يبرز العلاقات بين الأنماط التشكيلية والموروث، والقائم المكتسب، والإبحار في التخييل كما دراسة الأنساق الثقافية والاجتماعية لفرز الدلالات عند ليفي شتراوس.. من هنا كان الإحساس بأساليب القهر، والظلم، وكل مظاهر الفقر، والمعاناة كنتاج للسياسة السائدة «لما تعكسه من مآس تعبر عن الأجساد الممددة الصارخة في دواخلنا» عند فيكلوفيك.. وردود فعل الاهتمام بالواقع ما بين تشريح تشكيلي، وأشكال النضال المعبرة عنها لدى كل من غوك، ريفيرا، بوتيرو، بيكاسو، وغويا هذا الأخير الذي «جاءت مواقفه الواضحة وأعماله الجريئة انتقادا وحدادا وردا على الظلم..» بمعنى أن لكل فنان أسلوبه واستكانته في الخطاب للهدف المنشود بتعبير سارتر.. فهو مفتاح اهتمامات الفنان بالقضايا السابقة لذلك كان ريفيرا «..إنسانا مثقفا وملتزما بقضايا بلده السياسية… رسوماته للكادحين من العمال». وبيكاسو «اختلطت فيه جمالية المعالجة الفنية ببشاعة المأساة». وسالفادور دالي يرسم لوحاته «.. من منطلقات ذاتية.. برؤية يمتزج فيها الحلم بالواقع.» أما أعمال دافنشي فهي «.. تحمل حكايات غامضة، ومتنوعة برموزها وألغازها»..
«سرديات تشكيلية» نستشف منها أن الفن تركيب رمزي متنوع الأشكال ينبع من عمق الذات الفردية، وتقاطعاتها بعوالم مختلفة حضارية، ثقافية، تراثية وإنسانية.. لا تخرج عن منطق الفنانين السابق في الاهتمام بالواقع، وما يكتنفه من تناقضات، وتفاوتات اجتماعية، وسياسية، وقضايا حقوق وحريات الإنسان كمرجعية فكرية تؤصل قناعات الفنان، ما تعبر عنه «منمنمات الواسطي من أحداث يومية مستوحاة من الواقع بكل حيثياته.» وما يذهب إليه القاسمي حيث «ارتبطت أغلب مشاريعه الفنية بقضايا ملتزمة … بحرية وكرامة وهوية الإنسان» ويؤكده هبولي حين «ارتبط حسب قوله بمرحلة «التشدد السياسي»، مصرا على تبني هذه التسمية عوض «سنوات الرصاص». ثم هناك قضايا أخرى قومية وإنسانية وجدت طريقها إلى مجموعة من الفنانين في أنماط متعددة فالعزاوي «..كانت نصرته للقضية الفلسطسنية من بين انشغالاته وأولوياته الإبداعية.» وبوعود كان مدخله للغاية نفسها تضمين الشعر الفلسطيني في التشكيل «..عبر فضاءات تشكيلية معبرة عن تجربة مشتركة بينه وبين الشاعرالفلسطيني محمود درويش في محاولة ترجمة الكلمة إلى الصورة..»، فلم يقف التشكيل المهتم بالشعر في «السرديات» عند هذا الحد، بل حاول استثمار البعد الخيالي داخل الإبداع الفني، مما يولد الرؤية داخل الرؤية، أوالتخييل من خلال التخييل، فشردودي «يغرف من جمالية الصورة الشعرية ليعطي لعمله نفسا جديدا تتعدد فيه الرؤى بخيال منفتح على آفاق جمالية متنوعة»، وأزغاي «..اشتغل على القصيدة بما تحمله من دلالات لغوية ومشاهد مخيالية»، ما يستهوينا فيه تعبير هايدغر على أن «العمل الفني هو الظهور الحسي للفكرة.»
إذن، فالفنان يتزايد عنده هذا الحس للتنسيق بين المخيلة والعقل، أو المزج بين الواقع والخيال/ الفن. نلمس هذا الذي ذهبنا إليه سابقا ضمن عناصر «سرديات تشكيلية» الأخرى كبلقاضي وكيلين ومربو وبياض وبومديان وخيي.. هذا التعدد أيضا يجد ضالته في الموروث الإنساني، والثقافة الرمزية بأبعادها التاريخية، والجغرافية، والتراثية كاشتغال الملاخ مثلا «.. على الطائر، وما يحمله كموروث إنساني من إحالات بمختلف مشاربها الثقافية والرمزية.» وتجربة بومليك التي»تستمد كينونتها وقوتها من تجليات الفعل التاريخي والجغرافي لبداية الكون.» لذلك الصعوبةٌ هي أن يكون ذوق المتأمل مثله مثل عبقرية الفنان حسب ألكسندر باوغارتن لاختلاط الواقعي بالخيالي، وتداخل الحلم بالسريالي كما سنّه الكاتب عند الغطاس..
إن القراءة السردية التي نهجها الكاتب لنماذج سردياته، تبدي تركيبة الذات داخل واقعها الفني بمنظور الذات حسب طبيعة المتخيل، وتجلياته في البعد الجمالي التوليدي ضمنها، والتفاعلات الائتلافية الاختلافية التي تَسِمُها في أفق تفسير ما ينطلي عليها (واقع الذات والمجتمع ) والإكراهات التي تجعل التخييل حسب علم النفس يطبعها سلبا وإيجابا.. لذلك فمنطلق القراءة السردية الذي أبانه الكاتب يتسم بمزاوجة: معتمدا اللوحات «موناليزا، عرس يهودي مغربي بطنجة، أذن فان كوخ، موديكلياني، معركة تطوان، المنمنمات، أرض البرتقال، الطائر، حدائق النور: أحد عشركوكبا…» والقناعة التي تحرك إبداع الفنان كَـ «الاهتمام بسجن أبو غريب، مذبحة صبرا وشاتيلا، مشاهد الافتراس، الحلم وصياغة الواقع، الجسد وهيمنة العولمة، وغيرها..» وفي كلا الحالتين عمد الكاتب الى إحاطة المتلقي بالفنان من خلال وظائف آليات السرد.. إذن هذه السرديات تحمل مشروعا في أغلبه رمزيا لصوت الذات المتعددة، يمثل التشكيل فيها عملا مضاعفا، وهو «معيار للتشخيص الموسط أو الميتا تمثيل» حسب رايموند جينيت.. أي أن تداعيات الأشكال التناصية، والرمزية لهذه الأعمال تسهم في إثبات المسافة السيميائية بينها وبين الواقع أو بين المرجع والتخييل. هذه العمليات البنائية التي أثارها الكاتب، تضفي قيما جمالية لأخيلة توليدية بين مكونات الأعمال، وأدوات اشتغال الفنان المتعددة الألوان (القاتمة، والساخنة، والباردة، والزرقاء، والحمراء وغيرها.. ومدى إثارة بعدها البصري للبنية وتركيب الأيقونات، لتشكيل وحدة متكاملة.. وكل ما يمكن تحقيق موضوع اللوحات من مواد أخرى….) إن هذه الأدوات لسرديات تشكيلية، أفرز الكاتب اتساقها فنيا باندماج عناصرها الإفرادية، خالقة بذلك تأثيرا تركيبيا من حيث الإحساس التشكيلي المتكامل كما يقره فاغنر، بمعنى أن الكاتب وردود فعله كفنان، يحاول إحاطتنا بالاعتمادات التي تجعل اللوحة تشكيلية من أساليب، وآليات المادة الأولية القادرة على التعبير ضمن رؤية إبداعية خاصة.. تبحث عن التناغم والاستقرار في الألوان والأشكال وغيرها.. كما أنه أقرب منا إلى العناصر التوالفية، التي تبتعد عنّا قراءتها، وتفكيك حيثياتها، وتأويلها. فهذا التأويل الذي يحيطنا به الكاتب «يؤسس شعريته للتخييل.. من خلال العلاقة الاحتمالية بين العالم التخييلي، وعالم التجربة» كما يرى ذلك روبرت شولز..
إن ما يعزز قراءة الكاتب النقدية ضميرالذات/ الأنا، وهو بمفهوم تيودور أدورنو «..يحرص على تشييد مسافة جمالية في علاقته بالقارئ». أي ليس حضوره حضوراً اعتباطيا، بل ينطق خبرة وتجربة عندما يستدرج القارئ إلى كنه نماذجه ومميزاتها، كقوله «لا تسعفني الكلمات للحديث عن فنان تشكيلي.. ولا يمكنني اختزال تجربته في سطور..». و»أن تكتب عن الفنان عبد المالك بومليك، معناه أن تتحمل مسؤولية الرهان على تجربة يجب أن تعيش تفاصيلها..».
إذن فتجربته تتخذ حجمها في بناء فضاءاته السردية بمراعاة الذوق، وإدراك للسمو بالفن التشكيلي كي يصبح جزءاً من المتلقي، ومن واقعه بكل الصيَغ المنفتحة على قناعات الفنان بتقاطعاتها وتبايناتها بين فنان وآخر، حتى لا يبتعد «.. عن العملية التحليلية في نظام الوظائف في مجال تحليل الصورة ودراسة الألوان» يبدو فيها بدرايته الإستيتيقية ووعية التشكيلي ، ذا فلسفة فنية بتعبيرديدرو.


الكاتب : أحمد السالمي

  

بتاريخ : 29/03/2023