قراءة في كتاب الباحث عبد الرزاق الحنوشي

« البرلمان وحقوق الإنسان .. مرجعيات وممارسات»

 

في البداية والمناسبة شرط، لابد أن أستحضر مسيرة صديق قبل أن تكون مسيرة باحث، مسيرة صداقة تمتد لثلاثة عقود خلالها جمعني بالأخ عبد الرزاق الحنوشي شغف السياسة ونحن شباب يافعون نتطلع إلى التغيير، ونبحث عن أفق جديد لمغرب جديد .. جمعتنا كذلك تجربة العمل الجمعوي ضمن الاتحاد المغربي لجمعيات الأوراش UMAC ، وقد قادتنا هذه التجربة المشتركة في بعدها الوطني إلى التشبع بقيم التطوعتمنم، وفي بعدها الدولي إلى الانتماء الفسيح للبشرية بكل أجناسها وانتماءاتها العرقية والإثنية …وتلك كانت فلسفة الحركة التطوعية بعد الحرب العالمية الثانية التي جنحت نحو تحقيق السلم والتعايش، ودعم جهود التنمية مع المنظمات غير الحكومية عبر العالم .
في صيف 1989، وبمنطقة Catolica الإيطالية، حضرت رفقة الأخ عبد الرزاق الحنوشي لقاء متوسطيا بحضور ممثلين عن منظمات دولية، اللقاء شكل مناسبة لتبادل الحوار حول قضايا السلم والتعايش في بؤر التوتر ..وقد تكلف عبد الرزاق باسم الوفد المغربي، بتقديم عرض حول « القضية الفلسطينية « باللغة الفرنسية…وهو العرض الذي أماط اللثام عن حقائق كان يجهلها العديد من المشاركات والمشاركين الحاضرين من دول أجنبية . كان عبد الرزاق واثقا من مرافعته التي لم تكن تخل من نفس قومي ومن حس حقوقي لحظتئذ ….
امتدت صداقتنا بعدها لسنوات، تقاسمنها خلالها تجربة إعلامية مميزة بجريدة «الاتحاد الاشتراكي»، كما تقاسمنا الانشغالات الحقوقية في تقييم السياسات العمومية، وهنا أقر بأن للأخ عبد الرزاق رصيدا محترما منذ أمد طويل من خلال تجربة «الوسيط من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان» في مجال تقييم وتتبع حقوق الإنسان بقطاعات أساسية، ومنها التعليم والصحة وقطاع الشباب …فكانت التقارير التي ينجزها مع رفاقه في الوسيط لا تخلو من مهنية وصرامة منهجية …
طبعا اليوم، يدخل الأخ عبد الرزاق الحنوشي، وله الحق في ذلك، غمار رسملة تجربته المهنية بالبرلمان، وبعدها من خلال مسؤوليته المؤسساتية مدة ولايتين بالمجلس الوطني لحقوق الإنسان بعد دسترته كمؤسسة وطنية تشتغل طبقا لمبادئ باريس .. يدخل الباحث غمار النشر، رغم صعوباته المتعددة، ليملأ مساحة أساسية في الكتابة حول تجربتنا البرلمانية المغربية بإصدار اختار له عنوانا ذا دلالة « البرلمان وحقوق الإنسان …مرجعيات وممارسات « سيكون بدون شك مرجعا أساسيا لكل الباحثين والأكاديميين والطلبة الجامعيين …وقد يكون مرجعا مسعفا للأحزاب والمؤسسات المهتمة بالتكوين وإنتاج النخب .. !!ولست أدري هل هي صدفة أن يأتينا عبد الرزاق الحنوشي بهذا الإصدار بعد مرور 10 سنوات على دستور المملكة .. ، وبعد مرور 10 سنوات على ولاية المجلس الوطني لحقوق الإنسان في صيغته الدستورية الجديدة .. وبعد انقضاء 10 سنوات على مبادئ بلغراد …. بل ما يثير فضولنا العلمي هو تركيز الباحث، منهجيا وحصريا، على الولاية 10 من عمر البرلمان المغربي 2016/2021 …. !!
قد تكون هذه المرحلة الزمنية التي تمتد لـ 10 سنوات، بالنسبة لأي باحث، فرصة لاختبار التنزيل الأمثل للعمل المؤسساتي وإعمال المبادئ وإنضاجها لتصبح ممارسات فضلى تعتمدها الدول والمؤسسات الحقوقية …
والكتاب بقيمته العلمية والتوثيقية غير المسبوقة، هو رصد لحصيلة البرلمان المغربي في ولايته العاشرة في علاقته بمنظومة حقوق الإنسان، وهو رصد شامل غير خاضع لمنطق الانتقاء أو العينة. حصيلة ركزت على البرلمان بغرفتيه: مجلس النواب وغرفة المستشارين في ما يتعلق بمشاريع القوانين، ومقترحات القوانين والاتفاقيات الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان …
الكتاب أيضا هو ترصيد لعمل المؤسسة التشريعية وتقييم لأداء البرلمان المغربي في علاقته بمنظومة حقوق الإنسان .. وقد اختار المؤلف – بشكل مقصود – أن يكون هذا الكتاب مرجعيا بالأساس Révérenciel .. حيث ندرة المراجع على هذا المستوى البحثي ..
في تجربتنا البرلمانية المغربية، يستند الباحث في إطار تحديده للإطار المرجعي والمعياري لعلاقة البرلمان بمؤسسات حقوق الإنسان إلى مبادئ بلغراد، في إشارة إلى الوثيقة الصادرة عن مؤتمر مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان المنعقد في العاصمة الصربية بلغراد يومي 22/23 فبراير 2012 ..وتعد مبادئ بلغراد الإطار المرجعي لتجسير العلاقة بين المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان والمؤسسات البرلمانية ..
وقد توقف الباحث بشكل مفصل عند مبادئ بلغراد كوثيقة مرجعية على المستوى الدولي ، ليطلع الفاعل المؤسساتي والفاعل الحقوقي والفاعل الأكاديمي على أهم مضامين هذه الوثيقة المرجعية التي تؤطر الالتزامات المشتركة للبرلمانات والمؤسسات الوطنية المعنية بحقوق الإنسان، ومنها أساسا تقديم المشورة والتوصيات والمعلومات إلى البرلمان في القضايا والمواضيع ذات الصلة بحقوق الإنسان، بغاية تقوية مؤسسة البرلمان في ممارسة دورها في التشريع والمراقبة وتقييم السياسات العمومية، بما في ذلك التزامات الدولة في مجال حقوق الإنسان على المستوى الأممي … كما تندرج «الاستشارة الحقوقية « للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان من قبل البرلمانات بشأن محتوى ومقترحات القوانين الجديدة، والتأكد من مدى احترامها لمبادئ ومعايير حقوق الإنسان، والعمل على تقديم مقترحات عند الاقتضاء من أجل ملاءمة التشريعات الوطنية مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان …
ضمن هذا الأفق استعرض الباحث – وهو يقوم بفعل مضن بلا شك – عملية « تخصيب « مبادئ بلغراد في التجربة المؤسساتية المغربية، والتي انطلقت بتوقيع «مذكرة تفاهم» بين المجلس الوطني لحقوق الإنسان وبمبادرة منه، مع كل من مجلس النواب ومجلس المستشارين يوم 10 دجنبر 2014 احتفاء باليوم العالمي لحقوق الإنسان، ومنذ لحظتئذ، شكلت هذه الوثيقة الإطار المرجعي لما جاء من مبادرات، وقد تم تحيين هذه الاتفاقية بتاريخ 10 يونيو 2021 ..
وفي هذا الصدد يستعرض الباحث مجالات التعاون بالصيغة المغربية لمبادئ بلغراد من خلال تقديم مشورة المجلس الوطني لحقوق الإنسان من أجل إعمال مقاربة حقوق الإنسان في إنتاج التشريعات الوطنية ذات الصلة بالاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني التي صادقت عليها المملكة أو انضمت إليها . كما تشمل الاتفاقية استشارة المجلس الوطني لحقوق الإنسان في مجال دراسة أثر مشاريع المعاهدات والاتفاقيات المتعلقة بحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، والموجودة قيد المصادقة، على المنظومة القانونية الوطنية، وعلى التزامات المملكة في مجال حقوق الإنسان، بالإضافة إلى استشارة المجلس الوطني لحقوق الإنسان في مجال تقييم السياسات العمومية من منظور حقوق الإنسان ..ويمتد مجال التعاون والتنسيق ضمن اتفاقية بلغراد إلى إعداد استراتيجية لمتابعة التوصيات التي تقدمها الآليات الإقليمية والدولية المعنية بحقوق الإنسان، وتنسيق المبادرات المشتركة في مجال الدبلوماسية البرلمانية والموازية، إلى جانب دعم المجلس في إنجاز الدراسات والأبحاث في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة .
هذا وقد وفر كتاب عبد الرزاق الحنوشي « البرلمان وحقوق الإنسان ..مرجعيات وممارسات» رصيدا مرجعيا مهما من ثمار التعاون المؤسساتي، وذلك من خلال عدد هام من التقارير والمذكرات والآراء الاستشارية واللقاءات الدراسية، والندوات العلمية بمبادرة من المجلس الوطني لحقوق الإنسان أو بمبادرة من مجلس النواب أو مجلس المستشارين، أو بمبادرة من الفرق البرلمانية أو بعض اللجان البرلمانية الدائمة أو الموضوعاتية . وقد ساعدت هذه الحصيلة إلى حد كبير في تجويد التشريع المغربي وتقوية الدور الرقابي للبرلمان المغربي بغرفتيه، وفي دعم مجال الديبلوماسية الموازية . ولم يكتف الباحث ضمن هذا المجهود التوثيقي الهام برصد المؤشرات الكمية فقط، بل كانت لمسة الخبير الحقوقي حاضرة في تحليله النسقي لمختلف مجالات التشريع التي بلورته اتفاقية بلغراد بصيغتها المغربية، بما فيها القضايا الخلافية أيضا .
إجمالا يمكن أن نقر، كمهتمين وكمنشغلين بالسؤال الحقوقي في بعده الوطني والدولي، بأننا أمام إصدار يؤشر على جيل جديد من الكتابات الرصينة التي ستساعد على قراءة هادئة للتجربة المغربية في بعدها المؤسساتي من خلال علاقة البرلمان المغربي مع مؤسسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وعملهما المشترك لتطوير منظومة حقوق الإنسان …
وقبل هذا وذاك نحن أمام باحث اختار ، بكثير من التواضع ونكران الذات، أن يضع مسار خبرته العلمية والمهنية في مجال حقوق الإنسان قريبا من يد القارئ وخدمة للتطور المؤسساتي لبلده…


الكاتب : منير الشرقي

  

بتاريخ : 06/07/2022