قصة قصيرة : لقَدْ فَاتَ اَلْأَوَان..

 

استيقظتُ الآن في سن السبعين، الشيب زحف على كل الرأس، واللحية اشتعلت هي الأخرى بياضاً. نظرتُ إليّ في المرآة فلم أعرفني، دققت النظر جيدا ولم أعرفني مرة أخرى. تأكدت من شيء واحد حينها أنني تجاوزت مرحلتين مهمتين في حياتي، شبابي وشيخوختي، أطلت النظر في هذا الوجه الذي أسدلت أهذابه، وتجعدت أساريره، وبهت بريقه. بكيتُ ..أي نعم بكيت، ليس حزنا مني على شبابي الضائع، وليس لأنني أصبحت كهلا لا يقوى على مسح آثار الدموع الجاثية على خديه، وإنما بكيتُ لأنني بين ليلة وضحاها كبرت، ولم يعد بإمكاني سرقة اللحظات الجميلة من الحياة. لقد ابيضت عيناي دمعا، وأصبحت كظيما هشا لا يقدر حتى على إمالة  جسده فوق  هذا الكرسي المهترئ. فوالله حتى القوة التي تساعدني على ربط حبل بسقف الغرفة وامتطاء الكرسي والوقوف منتصبا كي أموت منتحرا، لم يعد لها وجود، خارت قواي وأصبحت هزيلا تزعجه أبسط الأصوات، حتى صوتُ دقات القلب يزعجني في ليالي الشتاء الطويلة حيث يكون السكون يخيم على الأرجاء، صوت المعدة عندما تتضور جوعا، وصوت المنبه في الصباح الباكر، أصوات محركات السيارات، صراخ الأطفال خارجا، الجيران ، والأقارب.
صوت زوج ابنتي وهو ينذرها بالعقاب لأنها لم تغير ملابس ابنها المتسخة، وأسفي الشديد عليها كوني لم يعد بمقدوري الدفاع عنها. لقد منيتُ بهزيمة نكراء، وإني أعترف أن الحياة حمّالة أوجه، ولعل أبرز الوجوه التي أظهَرَتها لي على طول سبعة عقود هي الوجوه الباسرة .
أقف اليوم على ناصية الزمن أعد دقائقي، جامعا أمتعتي، رابطا أحزمتي، منتظرا إمضاء ورقة الرحيل خاصتي .لم أحتّج يوما في شبابي ولم أكن يومها آبها للرحيل، لم أومن يوما بالخلود، لكن لم أعره أي اهتمام، أما الآن فقد آذن وقتُ رحيلي،إنني في أية لحظة قد أغفو غفوتي الأخيرة. عرفتُ الله خلال سنواتي الأخيرة فقط،عرفته في حين غفلة مني، عرفته في لحظات الوحدة ، تعرفت عليه خلال أيام ديسمبر الطويلة، راسلته مرات عديدة. ولازلت أتذكر رسالتي الأخيرة له قبل أيام:
-أي ربي، ألا أمضيتَ لي ورقة الرحيل! ألا يعلم عبادكَ أن الدموع التي سالت من عيني طوال سنوات الشيخوخة قادرة أن تحيي أراضيهم العطشى إلى الأبد! لقد جفّت عيوني الآن من ، ولا تزال تتساقط سوى قطرات الحسرة على محياي بين الفينة والأخرى. تهوي دموعي فتمتصها زغيبات اللحية الكثيفة ، فيختفي أثرها إلى أجل غير مسمى.
كم تمنيت لو أنني لم أخلق بشرا، ماذا لو كنت حشرة في شجرة ما بالأمازون، نملة في هذا الكون الفسيح، إشارة مرور في مدينة مهجورة، دمية في يد طفل يحركها كيفما يشاء، أو على الأقل صليبٌ معلق في غرفة رجل مسلم. لكم تمنيتُ أن أكون كل هذا، على أن أحيا بشرا لمدة سبعين عاما. لقد قتلني داء الحنين أيها السادة.
اليوم بعد أن حفر إزميل النوستالجيا الوهاد والأخاديد على مقلتي، آتي هنا مناجيا ومطالبا بحقي في الرحيل لا غير، فلم يعد بالإمكان المضي قدما بعدما أضعتُ مرحلة شبابي ولم أحياها كما يجب، رحلت زوجتي، وأبنائي، وها أنذا أنتظر دوري.
اليوم، ولو جاءتني الحياة حَبْوًا، ولو قدمت لي نفسها على طبق من ذهب، لشتمتها ولقلت لها:
-لقد فات الأوان…
فماذا تعني كلمة حياة حينما لا يجد المرء أهله، شبابه، قوته ونفسه؟؟


الكاتب : عزالدين بوروى 

  

بتاريخ : 26/01/2022