قضايا من التاريخ الجهوي للجنوب المغربي خلال القرن 19 .. السلطان المولى الحسن الأول ومهام ضبط المجال السوسي -31-

تكتسي الكتابة حول تاريخ الجنوب المغربي دورا مهما في إغناء المكتبة التاريخية المغربية، نظرا لأهمية هذا المجال في فهم واستيعاب العلاقة بين المركز والهامش ، أي العلاقة بين السلطة المركزية والقبائل وتمكننا دراسة هذه العلاقة بشكل يستجيب والموضوعية التاريخية إمكانية كتابة التاريخ من أسفل. ولعل ما كُتب حول الجنوب المغربي لا يغطي متطلبات الباحثين من مختلف مشارب المعرفة الانسانية، بمن فيهم المؤرخين الذين وجدوا صعوبات ما تزال قائمة لصياغة مونوغرافيات مركبة تتماشى والتوجه الجديد في الكتابة التاريخية الجديدة والتي تركز على التاريخ الاجتماعي والاقتصادي وتاريخ الذهنيات وتاريخ المهمشين أو المسكوت عنهم في الكتابة التاريخية.

 

لقد أناط السلطان الصالح بمهمات فضفاضة وعسيرة الحل كان في مقدمتها، كما أشرنا سابقا، تكليفه بحل أزمة قبيلة أيت بعمران في علاقتها مع المحيط القبلي الخارجي، ونعلم أن أباه قد باشر الصلح إلا أنه لم يفلح في ذلك ولم يستطيع أن يخمد نار الفتنة هناك، ومهما قدمت المصادر من معلومات حول هذه النقطة فإن الأب بالفعل أوقف القتال إلا أن رماده ظل قابلا للاشتعال كلما توفرت الظروف، وهذه قضية وجب على الابن البكر أن يبدل ما في وسع جهده ليضع حدا لها. وفي بداية صيف 1887 وبعد مرور سنة على الحركة الحسنية الثانية استطاع الشريف ولكن هذه المرة ليس وحده، فقد حضر لمباشرة الصلح بين فروع أيت باعمران العديد من العلماء والشرفاء والمرابطين بطلب من السلطان الذي أمره بإحضار : « العلماء والشرفاء والمرابطين لإكمال الصلح «،( رسالة جوابية من السلطان المولى الحسن الأول إلى محمد بن الحسين أهاشم، بتاريخ 8رجب عام1304/2 أبريل 1887. خزانة بودميعة البوخاري الخاصة.) وما لبثت نار الفتنة تخمد في أيت باعمران حتى اشتعل لهيبها بين باعقيلة وسملالة، وهو ما حاول الشريف أن يؤكده للسلطان بقوله : « ولم يبق إلا اليسير من الشنآن عند بعض سملالة مع باعقيلة ينتهي عند انقضاء الموسم المارسي «. تفصح الرسالة كذلك على التقدير الذي كان يكنه السلطان لأسرة آل هاشم واحترامه لمكانتها الروحية والمتمثلة في موسم تازروالت الذي يقام بالمقربة من ضريح الجد الروحي سيدي أحماد أوموسى، لهذا فقد طلب من الشريف أن تتم المهادنة مع احترام الموسم ليتم الصلح بعيد انتهاء أشغال هذا الأخير، ويستشف ذلك بقول السلطان : « وأما توقيرهم أيام الموسم فذلك من توجيه الله شكر الله لهم ذلك «. نجد السلطان كذلك يخول للصالح جزء من سلطاته الزجرية إذ كان من المعهود أن يتم إرسال مرتكبي الجرائم إلى الحضرة السلطانية حيث تتم معاقبتهم من طرف السلطان نفسه، وخلال هذه الأثناء أصبح الشيخ هو من يباشر هذه المهمة بتفويض من السلطان، فلما تعرضت دار «الطاهر بن المعطي الإمْطَّاعي» للهجوم ليلا من طرف ثلاثة أشخاص كلف السلطان الشريف وطالبه : «…بالبحث عن ذلك وإن صح فازجرهم على ذلك وكفهم عن العود إلى مثله بعد إنصافه منهم…». (مراسلة من السلطان المولى الحسن الأول إلى محمد بن الحسين أهاشم، بتاريخ 6 رجب 1307/26 فبراير1890).
بالانتقال إلى مراسلة أخرى من شريف تازروالت إلى السلطان سوف يلاحظ أنه رغم الكم الهائل من القواد الذين عينهم السلطان لضبط المجال السوسي، وخصوصا أولئك الذين أوكلت لهم مهمة مراقبة حصن تزنيت لردع أي محاولة للتحرش بالسواحل الجنوبية، فإن آماله ظلت معلقة بشريف تازروالت الذي ألح عليه السلطان بشدة أن يقدم الدعم اللوجيستيكي للقواد المكلفين «بالعسة»* ويلاحظ ذلك بقوله : «… أما بعد فقد ورد علينا حملته الأمين الجيراري مع رفيقه وبأيديهم الكتاب الشريف يتضمن الأمر الشريف بالوقوف معهم، وبشد عضدهم في أمر العسة المكلف بها عمال قبائل الساحل السوسي».( نفس المراسلة السابقة) وبعد تطلعه للأمر سوف لن يتراجع عن إخبار السلطان بأن الحراسة التي أكد الجيراري بأنها مستمرة وخاضعة للأوامر السلطانية كلام أريد به باطل ولا أساس له من الصحة، مؤكدا له أن الحراسة قد انقطعت مما يعني أن المعاملات التجارية مع الأجانب محتمل أن تستأنف من جديد حسبما يستشف من كلام شريف تازروالت، أو حسب ما أراد أن يلوح به للسلطان بقوله : « وبعد رجوعهم** من عند أيت باعمران وواد نونة وسألناهم عن ذلك وزعموا أن تلك القبائل قاموا على ساق الجد وامتثلوا للأمر الشريف بقدر وسعهم، وبحثنا عن حقيقة الأمر فوجدناه على خلاف ما أخبرونا به، فإن العسة في تلك الثغور قد انقطعت منذ أعوام هذه إلى الآن «.( مراسلة من شريف تازروالت محمد بن الحسين أوهاشم إلى السلطان المولى الحسن الأول ، بتاريخ، 23 شوال 1309/21 ماي 1892. خزانة بودميعة البوخاري بإنزكان) وليبين عن طاعته وموالاته للمخزن قال: « وحتى الآن فلا يعتمد سيدنا المؤيد بالله على الأقاويل المزخرفة الموهومة بالكذب «.( نفس المراسلة) وحتى يتقرب منه ويجعله يرى فيه الرجل الوحيد الذي يمكن أن يكون ممثلا نموذجيا للمخزن في هذه الأصقاع، ومخبرا إياه بالصغيرة والكبيرة، سوف يقدم الشريف مقترحاته في شأن الحراسة والتي يمكن أن تجعل السلطان يطوي صفحة هذا الموضوع ويضع نقطة ختامه، وهو ما يستشف بقوله : « والذي ظهر لنا في أمر الحراسة إن اقتضاه النظر الشريف أن يفرق بعض العسكريين الكائنين ببلد أيت بعمران وواد نونة على تلك الثغور وينزل فيها ويزيد عليه القبائل قدرا يليق به، وأما عسة القبائل بدون خلط العسكر معها فأمر متعسر عليها لا يكاد ينضبط «.( مراسلة من شريف تازروالت محمد بن الحسين أوهاشم إلى السلطان المولى الحسن الأول ، بتاريخ، 23 شوال 1309/21 ماي 1892. خزانة بودميعة البوخاري بإنزكان) وحتى لا تخرج القبائل عن الطاعة وتمتثل لأوامر السلطان في ما يخص أمر الحراسة، ولكي يغلق الباب على كل محاولة استغلال المؤن من طرف القواد والعمال اقترح على جنابه الشريف ما يلي : « وإن تفضل مولانا خلد الله ملكه على رماة العسة بمؤنة فينبغي قسمها لها على يد غير العمال، فإن العمال يمنعوها على الرعية وذلك سبب انقطاع العسة «.(نفس المراسلة السابقة) وفي نهاية المراسلة لم يسع الشريف إلا أن يبدي امتثاله للطاعة الشريفة، وأنه على ساق الجد لخدمة المخزن وتنفيذ أوامره السامية ويتضح ذلك بختمه للرسالة بعبارة : « ونحن على العهد ودوام الخدمة «.(نفس المراسلة السابقة)بعد مرور ثلاثة سنوات سوف يمتثل السلطان لمقترحات شريف تازروالت باعتبارها الحلول الناجعة لإيقاف أي تحرش بالسواحل الجنوبية من خلال السهر على ديمومة الحراسة وفق الإستراتيجية الجديد التي أملاها عليه، هكذا كان رد السلطان : « فقد أشرت بالرأي سددك الله وقد أمضينا ذالك وأمرنا به على مقتضى ما سطر يمينه* فلتقف معهم على ذلك حتى ينفذ على مقتضاه…»( رسالة جوابية من السلطان المولى الحسن الأول إلى شريف تازروالت محمد بن الحسين اهاشم بتاريخ 25 صفر1310/18 شتنبر 1892.). بهذا أصبح شريف تازروالت خلال هذه المرحلة مستشارا للسلطان ومخبرا له بكل ما يقع في أرجاء سوس حتى يكن عند حسن ظنه وكأن هذه هي المهمة التي أصبحت تشغل باله ويبدل ما في وسع جهد للقيام بها على أحسن وجه، فبعدما كان أباه منشغلا بأعماله التجارية والاقتصادية، غير هذا الأخير منحى هذه المعادلة وارتمى في أحضان المخزن. فقد كان بإمكانه أن يسيطر على بعض المناجم المعدنية التي اكتشفت خلال هذه الفترة، كما كان سيفعل أباه لو بقي على قيد الحياة، وهذا مظهر آخر من مظاهر احتواءه من طرف المخزن، فكان أول من يخبر بهذا المستجد هو السلطان الذي لن ينزع عنه ثقته بعد هذه البادرة الطيبة، وحسب ما يستنبط من خلال رسالة جوابية بعثها السلطان المولى الحسن الأول إلى شريف تازروالت فإن هذا الأخير بادر إلى إخبار مسامع السلطان بالاستغلال اللامشروع من طرف بعض الأشخاص لمعادن منطقة نفوذ القائد أحمد التامنارتي وغيرها، وكأن هذا الأخير عاجز على ردع مثل هذا التصرف، أو أنه متواطئ مع المستغلين، ويستشف هذا بقول السلطان : « وصل كتابك بأن ببلد سوس نحاس ورصاص يستغلها بعض إيالة الخديم التامنارتي ومجاطة ومنوزة، وكما يوجد فيهما الحديد أيضا، لكن النحاس هو الكثير وأنه كان ببلد تزلغت وانقطع منذ عشرين سنة، ثم ظهر معدن آخر منه. كما ببلد تغلل النحاس والرصاص غير أن ما يخرج منه قليل بالنسبة للأولين وأن بمحل آخر يقال له العدانة قبالة تيزنيت معدنا يحفر منه الكحل والرصاص ويباع بالموسم هناك…».( رسالة جوابية من السلطان المولى الحسن الأول إلى شريف تازروالت محمد بن الحسين أهاشم بتاريخ ، 6 ذوالقعدة 1309/ 2 يونيو1892.) وكما هي عادة شريف تازروالت فقد بادر إلى تقديم مقترحه حول مستقبل هذه المعادن بضرورة توظيف مداخلها للصالح العام عن طريق حيازتها لبيت مال المسلمين، كما اقترح على السلطان ضرورة تعيين أمين يتولى هذه المهمة وكأنه بذلك يلوح للقضية ولا يريد أن يكلف بها لإبعاد الشبهة عنه : « وعلمنا ما أشرت به من حيازة ذلك لبيت المال وتوجيه من يعاينه من الأمناء وصار بالبال» (رسالة جوابية من السلطان المولى الحسن الأول إلى محمد بن الحسين أهاشم بتاريخ 6 ذوالقعدة 1307/24 يونيو 1890). وقد استطاع شريف تازروالت أن يقنع السلطان بهذا المقترح وما كان على هذا الأخير إلا أن يقبل بمقترحه ويشاطره رأيه، فقبول السلطان لرأي الشريف ليس اعتباطيا وإنما جاء نتيجة لدربته ومراسه اللذان ميزا شخصية محمد بن الحسين أهاشم. كما أن هذا القبول يدل على أهمية العلاقة التي فاقت تلك التي كانت بين المولى الحسن الأول و الحسين أهاشم التازروالتي : « وقد أحسنت في الإعلام بذلك أصلحك الله وها نحن عينا الأمين الطالب محمد بن سعيد الصويري… للتوجه معك بقصد الشروع في خدمة المعدن الذي ببلد منوزة على يدك، وبعد مضي شهر يحصى صائر ذلك مع ما خرج فيه ويبين ذلك ليظهر ويوصر بما يكون عليه العمل بحول الله…». (نفس المراسلة السابقة) أما المعادن التي بمنطقة نفوذ القائد أحمد التامنارتي فقد شدد عليه السلطان بضرورة إيقاف كل محاولة من شأنها أن تؤدي إلى استغلال هذه الثروة المعدنية بدون موجب شرع : « وقد أمرنا الخديم الحاج أحمد التامناراتي بالوقوف وشد العضد كذلك حيث كان المعدن المذكور بتراب إيالته…».( رسالة جوابية من السلطان المولى الحسن الأول إلى محمد بن الحسين أهاشم بتاريخ 6 ذوالقعدة 1307/24 يونيو 1890) .


الكاتب : ربيع رشيدي

  

بتاريخ : 18/04/2024