كتابات في تاريخ منطقة الشمال: «قبيلة أيت يطفت»

6
خلفت الإسطوغرافيا الكولونيالية رصيدا هائلا من الأعمال التأسيسية والتنقيبات التأصيلية لخبايا المغرب العميق لمرحلة ما قبل وصول جحافل الغزو الاستعماري لبلادنا مطلع القرن 20. واكتسب هذا الرصيد الكثير من الخصائص الوظيفية التي جعلته يتحول إلى «دليل علمي» مؤطر لعمليات الغزو والاحتلال المباشرين. في هذا الإطار، تكاملت جهود البعثات «العلمية»، خاصة منها الفرنسية والإسبانية، مع جهود الأفراد المستكشفين والرحالة والمغامرين ورجال الدين والضباط العسكريين، من أجل تشريح المجال المغربي بالبحث وبالدراسة، في أفق التمهيد لاحتلاله ولتطويعه. لذلك، ارتبط الاستكشاف العلمي الفرنسي والإسباني لمرحلة ما قبل الاستعمار وأثناءها، بالرغبة الجامحة لدى الفاعل الميداني في فهم البنى المغربية المركبة واستيعاب أنساقها وتيسير استيعابها. وعلى الرغم من كل ما يمكن أن يقال عن هذا البعد الوظيفي الفاقع المهيمن على مثل هذه الأعمال، فإنها -مع ذلك- اكتست الكثير من عناصر التجديد في آليات البحث وطرقه، ومن عناصر الجرأة في طرح الأسئلة المنسية التي ظلت غائبة من بين متون كتابات الإسطوغرافيات العربية الإسلامية الكلاسيكية، بالنظر لانتظامها خارج سياق اشتغال عقل المؤرخ التقليداني وخارج رؤاه المنهجية في تجميع مواده الخام وفي تقييمها وفي تصنيفها وفي استثمارها. لم تعد الكتابة التاريخية تنحصر في التوثيق لتعاقب الدول والسلالات والإمارات والقيادات، بل انتقلت لتفكيك البنى المجتمعية «الطويلة المدى» كما برزت في بيآتها المخصوصة، وكما تلاقحت في تأثيراتها وفي تأثراتها المتبادلة مع محيطها المحلي والإقليمي والوطني والدولي.
ونظرا لتزايد الوعي بأهمية العودة للاشتغال على التراث الكولونيالي التاريخي الخاص بالمغرب، عرفت الساحة العلمية الوطنية عودة للانفتاح من جديد على عطاء «الذاكرة الكولونيالية»، ونظرا لتزايد الوعي بأهمية العودة للاشتغال على التراث الكولونيالي التاريخي الخاص بالمغرب، عرفت الساحة العلمية الوطنية عودة للانفتاح من جديد على عطاء «الذاكرة الكولونيالية»، ونظرا لتزايد الوعي بأهمية العودة للاشتغال على التراث الكولونيالي التاريخي الخاص بالمغرب، عرفت الساحة العلمية الوطنية عودة للانفتاح من جديد على عطاء «الذاكرة الكولونيالية»، بترجمة المظان الأساسية، وبتصنيف المونوغرافيات المجهرية، وبإعادة تقييم ذهنيات الاشتغال وأساليب التنقيب وآليات التفكيك وآفاق الاستخلاص. في هذا السياق العلمي الأصيل، يندرج صدور الترجمة العربية لكتاب «قبيلة أيت يطفت»، لمؤلفه الباحث الإسباني أنخيلو كيريلي سنة 2020، في ما مجموعه 107 من الصفحات ذات الحجم الكبير، بتوقيع الأستاذة نادية بودرة، وبتقديم للأستاذ عبد المجيد عزوزي.
ولتوضيح السياق العام لهذا الإصدار الجديد، يقول الأستاذ عزوزي في كلمته التقديمية: «العمل ذاته المعنون بالإسبانية: Apuntes sobre la cabila de Beni Itteft والصادر بمدريد سنة 1956 بالعدد السابع والثلاثين من محفوظات معهد الدراسات الإفريقية، هو عبارة عن دراسة أنجزت تحت الطلب لفائدة السلطات الإسبانية الممثلة في مكتب المغرب التابع لوزارة الحربية. صدرت هذه المونوغرافيا في 52 صفحة من الحجم المتوسط، مع تخصيص صفحتين لثلاث صور، الأولى لشاطئ بادس، والثانية لنفس الشاطئ والرأس الذي يسمى الخرصة محليا ويطلق عليه الإسبان اسم لابونتييا، والثالثة للشاطئ وجزيرة بادس…» (ص ص. 6-7).
وعلى هذا الأساس، فالكتاب عبارة عن مونوغرافية وصفية تقدم معطيات عامة تفتقد للصرامة الأكاديمية المتعارف عليها في الدراسات التاريخية والميدانية، لكنها تنفتح على المجالات المشاهدة سواء منها الجغرافية أم البشرية، لتقدم معطيات غير متداولة مرتبطة -بشكل خاص- بالإفرازات القائمة للمسار التاريخي الذي عرفته قبيلة أيت يطفت داخل عمقها الإقليمي بمنطقة الريف، وداخل امتداداته الجهوية الواسعة بشمال المغرب. في هذا الإطار، نجد فصلا أول يركز على الخصائص الجغرافية والديمغرافية لقبيلة أيت يطفت، وعلى رأسها الموقع الجغرافي، والمساحة، والحدود، وامتداد الساحل، وتوزيع المرتفعات والأراضي المنبسطة والموارد المائية، ونوعية المناخ. وفي الفصل الثاني، ركز المؤلف على التعريف بالثروات الاقتصادية للقبيلة، وعلى رأسها النبات والوحيش، والأنشطة الزراعية، والموارد الغابوية، وقطاع تربية المواشي، والنشاطين الصناعي والتجاري، وتوزيع الثروات المعدنية والسمكية، وتوزيع الأسواق ومخازن الحبوب وتيارات الهجرة. وفي الفصل الثالث، ركز المؤلف على تقديم الخصائص الإثنية للقبيلة، وخاصة على مستوى اللغة والدين والقوانين الشرعية والعرفية والعادات الجماعية. أما الفصل الرابع، فاحتوى على وصف للتنظيم السياسي وللبنية الانقسامية المؤطرة للواقع السياسي لقبيلة أيت يطفت. واهتم الفصل الخامس بتفصيل الحديث عن مكونات كل من السلطة السياسية والسلطة الدينية وتقاطعاتهما العميقة داخل القبيلة. وخصص المؤلف فصله السادس لتقديم ملاحظات عامة حول التطور التاريخي للقبيلة، وختم عمله بفصل سابع تتبع فيه مسار رحلة سبق أن قام بها داخل أصقاع قبيلتي أيت يطفت وإبقوين، ثم سلسلة من الفهارس التفصيلية الخاصة بالأماكن وبالأعلام وبالأضرحة وبالصور.
وإذا أضفنا إلى ذلك قيمة الجهد الذي قامت به المترجمة في سد الثغرات، وقدرتها على تطويع لغة سردها في قالب سلس ساهم في تيسير عملية المراوحة بين النص الإسباني الأصلي وبين النص العربي المترجم، أمكن القول إننا أمام إضافة هامة في مجال تنظيم الاشتغال على البيبليوغرافيات المحلية الخاصة بتاريخ الريف المغربي خلال عقود النصف الأول من القرن 20. ويبدو أن الأستاذة نادية بودرة قد أحسنت الانتباه لثغرات النص الإسباني، خاصة على مستوى ضبط رسم أسماء الأعلام البشرية والجغرافية، مما كان يدفعها للتدخل من أجل تدارك ما يجب تداركه، والتدقيق في ما يجب التدقيق فيه. وبذلك، نجحت في تجاوز منطق الاستقراء الحرفي للمضامين وتعريبها بطريقة تقنية، إلى مستوى تأصيل عملها بنحت المصطلحات وإعادة مضامينها إلى حضنها الأصلي بقلب أصقاع منطقة الريف.
لن نجازف بالقول إن الكتاب يقدم مونوغرافية شاملة لقبيلة أيت يطفت، ولا جردا لمحطات تطور بناها المجتمعية والإثنوغرافية المميزة، ولكننا نعتقد أنه يقدم -في المقابل- عناصر التأمل والارتكاز عند وضع الخطاطات الضرورية والمنطلقات التأصيلية لدراسة التطورات التاريخية الكبرى لقبيلة أيت يطفت على امتداد زمنها الطويل.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 06/05/2023