مؤتمر حوارات الأطلسي يناقش انعكاسات أزمات التضخم والإكراه الاقتصادي والعسكري على التعاون الدولي

 

هل المحيط الأطلسي الواسع مساحة قابلة للتعاون والحوار بين الدول؟ هل تعددية الأطراف بحاجة إلى إصلاح عالمي؟ ما هو دور الجنوب في هذا الإصلاح الشامل ؟ هل ستكون استراتيجية الأطلنطي الواسع الموحدة مفيدة كمحاولة لإخماد الأزمة؟ ما هو دور إفريقيا وأمريكا اللاتينية في (إعادة) تشكيل ديناميكيات الأطلسي الأوسع؟ ماهو الوضع الحالي للتعاون في مجال تغير المناخ في حوض الأطلسي؟ كانت هذه أهم الأسئلة التي عالجتها النسخة 11 من مؤتمر الحوارات المتوسطية التي احتضنتها مراكش يومي 14 و 15 دجنبر الجاري، والمنظمة تحت الرعاية السامية لجلالة الملك من قبل مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد في موضوع» التعاون الدولي في عالم متحور : الفرص المتاحة في المحيط الاطلسي الموسع .»
مناقشات المشاركين، وهم شخصيات رفيعة من عوالم السياسة والبحث والتفكير الاستراتيجي، أبرزت التعددية ذات السرعتين التي تطبع المحيط الأطلسي الواسع بعد عقود من التكامل الاقتصادي. حيث أن العالم يبدو وكأنه يتفتت مرة أخرى. وهو ما يجد أفضل تجسيد له في عودة الجغرافيا السياسية والحمائية، والعقوبات الأحادية الجانب، والانسحاب من المعاهدات، وحتى الإكراه العسكري والاقتصادي.
وأكد المشاركون أن الحرب في أوكرانيا تظهر وكأنها تعمق هذا الانطباع عن نظام دولي بمعاناة خاصة في المحيط الأطلسي الأوسع، حيث يوجد اختلاف في وجهات النظر يقسم الغرب والجنوب العالمي. موضحين أنه بالتزامن مع ذلك، تعرضت مؤسسات التعددية، مثل الأمم المتحدة ووكالاتها المتنوعة، لانتقادات بسبب افتقارها إلى الكفاءة وتصلبها المؤسسي، بل واجهت تحديات من قبل الجنوب العالمي، ولا سيما القارة الإفريقية، بسبب هياكلها الحاكمة غير العادلة مع الضغوط المتزايدة لإضافة مقعدين إفريقيين إلى مجلس الأمن.
وأبرز المشاركون أنه على عكس دول شمال الأطلسي، لا يزال جنوب المحيط الأطلسي يفتقر إلى آليات التعاون الفعال والاستعداد لمواءمة المواقف على الساحة الدولية.
ومن الأسئلة التي عولجت في نسخة هذه السنة من الحوارات الأطلسية:هل نتجه نحو عصر تضخم جديد؟ وما هي العوامل الدافعة للتضخم اليوم، وما مدى تشابهها واختلافها عن السبعينيات؟ وكيف يمكن للسياسات المحلية التعامل مع هذه القضية؟ وهل يمكن أن تكون الاستجابة الدولية الجماعية فعالة؟ وهل يؤدي اتجاه التضخم هذا إلى تحول أكثر عمقًا في النظام الاقتصادي العالمي؟ حيث أشار المشاركون إلى أن حدث ارتفاع التضخم جاء في أعقاب انتعاش النشاط العالمي من COVID-19 عندما تعطلت سلاسل القيمة العالمية بشدة وكانت تكافح من أجل التعافي منذ ذلك الحين. وأضاف الصراع الروسي الأوكراني ضغوطًا جديدة على الاقتصاد العالمي، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء.
وأكد المشاركون، في نفس السياق، أن التضخم يجلب المزيد من عدم اليقين في عمل الاقتصاد ويدخل تكاليف معاملات جديدة للوكلاء الاقتصاديين، الذين يصير أداؤهم مقيدا بالاحتراز ضدها. وأوضحوا أن تقييما أكثر دقة يظهر أن الأسر الضعيفة تأثرت بشدة على جبهتين، فمن ناحية هناك تقلص دخلهم الحقيقي الممكن إنفاقه بينما تضاءلت مدخراتهم بشكل كبير في نفس الوقت، لأن ممتلكاتهم ليست محصنة ضد التضخم بشكل عام، ومن ناحية ثانية هناك رد الفعل العدواني الذي أحدثه صانعو سياسات الاقتصاد الكلي وانعكاساته في جميع أنحاء العالم.
ونتيجة ذلك، يؤكد المشاركون، أن اتجاه التضخم يمكن أن يكون حافزًا للتحولات الجارية، ويمكن أن يقوي أكثر من يد أولئك الذين يبشرون بالعولمة ويدافعون عن سلوكيات الاعتماد على الذات. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي التضخم أيضًا إلى التشكيك في توازن القوى بين العمال وأصحاب رأس المال، مما يبشر بعصر جديد في مفاوضات أسواق العمل.
وفي جلسة خصصت لموضوع سلطة الشارع والإرادة الديمقراطية، تناول المشاركون ظاهرة لجوء المجتمعات إلى الاحتجاج في الشارع لإسماع صوتها ابتداء من حركة «احتلوا» ، «Indignados» ، أعمال الشغب الاجتماعية في بعض بلدان أمريكا اللاتينية، وما يسمى بـ «الربيع العربي» ، إلى أحداث «السترات الصفراء» أو «Antivax» ، متسائلين إن كانت علامة عن تجربة ديمقراطية صحية أو علامة عن استياء عميق واختناق في مسالك استيعاب المطالب الاجتماعية من قبل الآليات الديمقراطية.
وأبرزوا في نقاشاتهم أن هذه الحركات الاجتماعية أظهرت بوضوح الإحباط المتزايد من السياسات الاجتماعية والاقتصادية، مثلما أشاروا إلى بعض الاختلالات في الديمقراطيات في ما يتعلق بالحكم الرشيد والتمثيل السياسي والعدالة الاقتصادية. مؤكدين أنه مع عودة قوة الشوارع إلى مركز الجغرافيا السياسية العالمية، يتم إعادة الحكومات بشكل متزايد إلى أساسيات التوازن بين السلطة والشعب. حيث تواجه الحكومات تحديات من خلال الاحتجاجات الجماهيرية والخلافات التي تظهر على وسائل التواصل الاجتماعي وحتى حملات المقاطعة التي يمكن أن تؤدي في بعض الأحيان إلى زعزعة مدمرة للاستقرار.
وحظي موضوع الناتو وجنوب المحيط الأطلسي والتوازن الاستراتيجي العالمي بحيز هام من مناقشات الدورة 11 من مؤتمر «حوارات الأطلسي»، حيث أكدوا أن التوترات المتزايدة في العلاقات الدولية التي بلغت ذروتها في الحرب في أوكرانيا والتنافس الصيني الأمريكي، أدت إلى إعادة حلف الناتو وجدلية التحالف عبر الأطلسي إلى صدارة الشؤون الاستراتيجية العالمية.
وأبرزوا أن المفهوم الاستراتيجي لعام 2022 يندرج ضمن هذه الدينامية من خلال تأكيد النوايا في تعزيز قدرات الناتو لصالح الدفاع والأمن الجماعي لجميع الحلفاء، موضحين أن هذا التعديل يقود إلى اعتبار الفترة الحالية مرحلة انتقالية، وإعادة التفكير في علاقة الحلف مع المحيط الأطلسي الموسع في ضوء الأمن التعاوني.
ولاحظوا في نفس السياق، أن المنطقة الأوروبية الأطلسية لديها الوسائل الاستراتيجية والاقتصادية وكذلك القدرات لاحتلال المكانة الراجحة في الفضاء الأطلسي الموسع. كما أن المجموعات الفرعية لأمريكا اللاتينية والأفرو-أطلنطي، التي تتميز بتاريخ طويل من التنمية والبحوث الأمنية، تزداد قوة، كقوى صاعدة عظيمة بالنسبة للبعض، بسبب مواقفها الجيوسياسية العالمية الجديدة. لذلك، كما أوضحت تحليلات المشاركين، لا يمكن اختزال المحيط الأطلسي الأوسع نطاقا إلى مساحة شاسعة وبسيطة مقسمة بين المحيطين الأوروبي الأطلسي وجنوب المحيط الأطلسي، بل يجب أيضًا اعتباره مساحة مناسبة للأمن التعاوني والازدهار الاقتصادي.
وحسب الجهة المنظمة فإن إسماع أصوات الجنوب في المحادثات الجيوسياسية العالمية والمشاركة على قدم المساواة في الحوار يشكلان القيم الجوهرية وغاية إحداث هذه المؤتمرات، التي تجمع مزيجًا فريدًا من الخبرات العابرة للقارات.
وشارك حضوريا في هذه النسخة أزيد من 350 ضيفًا من 60 جنسية حول موضوع: «التعاون الدولي في عالم متحور: الفرص المتاحة في المحيط الاطلسي الموسع». وقد شهدت النسخة الأخيرة من هذه الحوارات المنعقدة في عام 2019، نجاحًا كبيرًا، حيث حضرها أكثر من 500 مشارك من 90 جنسية. ثم جاءت جائحة كوفيد-19 لتفرض عقد نسختين في شكل ندوات افتراضية على مدى شهرين –تابعهما عبر الإنترنت جمهور فاق 70.000 شخص في عام 2021.
ويعتبر المنظمون أن الموضوع الذي اختير لهذا العام فرض نفسه بسبب أزمات متعددة: الجائحة، والحرب في أوكرانيا، وتغير المناخ، وصدمات عديدة تكشف حدود الليبرالية الجديدة وتعددية الأطراف، وتقدم في الوقت نفسه فرصًا للتعاون في عالم أصبح مترابطا.


الكاتب : مكتب مراكش: عبد الصمد الكباص

  

بتاريخ : 16/12/2022