(محكيات) : كنا في قلب الزلزال

 

بعد عطل في جهاز التلفاز الخاص بصالة الضيوف، وفي انتظار إصلاحه ثبتُّ بالقرب منه جهازا آخر قديما، وأصغر منه.
ذهبت إلى المكتب.. اطلعت على بعض الأخبار بسرعة. استهواني شعار ورد كعنوان لإحدى المقالات الإخبارية. لم أقرأ المقال. أخذت الشعار، وفتحت (الوورد). حذفت إحدى كلماته.. وفكرت في إضافة صورة تخييلية له. شبهت ارتفاع الأسعار بثيران (الكوريدا) الإسبانية، لكن مع فارق هو أن ثيران الأسعار لا تريد الدخول إلى الحلبة. تظل تطارد الناس في الأزقة والدروب. لا وجود لمصارعين خارج الحلبة. تعب الناس من الركض. قلت: أكيد سيكون هناك ضحايا..
قبل الانتهاء من صياغة التدوينة، اهتزت الجدران.. انقطعت الكهرباء.. لم أعد أرى شيئا.. زوجتي تصرخ في الصالون.. دوي يشبه دوي الرعد. لا نعرف إن كان مصدره السماء أو باطن الأرض.. الأرض تهتز.. الجدران تهتز. ذهبت إلى الصالون. احتضنت زوجتي، وانزوينا في ركن الصالة. دار بيننا حديث خاطف:
سألت بصوت أم يغلب عليه البكاء:
ـ أين علي؟ اطمئن على علي.. نادي عليه في الهاتف!
كان ابني قد خرج قبل ساعة رفقة صديقه. ذهبا إلى مقهى في جيليز. لم يكن معي هاتف. الهاتف لايزال في المكتب.
قلت وعقلي في عالم آخر:
ـ سأبحث عن الهاتف في ما بعد.
أضافت بصوت أجشّ:
ـ هيا نخرج! السقف سيقع فوق رأسينا.
الارتجاج لايزال قويا، والجدران تميد بنا. كل ما تعلمته من نشرات الأخبار عن الزلازل في اليابان، هو أنك يجب أن تلوذ بركن من أركان الغرفة، أو تختبئ تحت مائدة الطعام، وتحمي رأسك، وتنتظر المعجزة في أن يتوقف الارتداد. زوجتي تصرخ.. لا أعرف كم مضى من الوقت.. صراخ وعويل في الخارج وعند الجيران.. مشهد رهيب.. الارتداد لا يتوقف.. والزمن توقف. كنت أعلم أن الزلازل تمتد وقتا قصيرا. بضعة ثوان، وينتهي كل شيء.. ينجو من ينجو، ويسقط من يسقط. هذا الزلزال لا يشبه غيره.. وقته طال.. لا بد أنه يريد تدمير أكبر قدر من المباني، ويأخذ الكثير من الأرواح. لا تستطيع أن تتحرك من مكانك. بعض الديكورات، تتساقط وتتكسر، وتزيد المشهد رعبا.
من كان بين أربعة جدران، وقال بأنه لم يخف، فهو يكذب.. لحظات رهيبة تمرّ طويلة.. وتقطع معها الأنفاس. أنا الآن فقط أتذكر اللحظة، أكتب ويداي ترتعشان، وأكاد أجهش بالبكاء. لم نخرج بعد من البيت. لست خائفا على نفسي أكثر من خوفي على من في الخارج.. على الناس .. على الأهل .. على الأصدقاء. الآن توقف ارتجاج الجدران. تنفست الصعداء.. لكن الارتجاج انتقل إلى عالم الناس الداخلي. تمة وقت يجب أن أستغله في البحث عن الهاتف، وبعض الأغراض المرتبطة به (الشارجور والكابل والباور بانك).. وضعت ذلك كيفما اتفق في الحقيبة. الكهرباء لاتزال مقطوعة.. زوجتي تجرني إلى الخارج، وأنا أبحث عن المفاتيح.. لا بد أن أغلق الباب.. نزلنا السلم.. مازال الخوف متمكنا منا.. يمكن أن تعود الرجّة من جديد.. قد تكون أقوى من سابقتها.. لا أحد يضمن لك العكس.. يجب النزول بحذر. عندما وصلنا الباب وجدنا الزقاق مليئا بالجيران وأبنائهم. الناس تبكي، وترفع أكفها للسماء. الغريب أنهم يقفون تحت جدران منازلهم.. لا نملك تجربة أو ثقافة نطمئن بها بعضنا.. بيت أحد أفراد العائلة قريب. يبعد عنا بحوالي ثلاثمائة متر. بجانبه ساحة كبيرة خالية من المباني.. زوجتي تتكئ علي.. لا تقوى على الوقوف.. تنتحب.. وتطلب أن أطمئنّ على ابننا.. الهاتف لا يعمل.. الأزقة تضيئها مصابيح الهواتف النقالة. الناس تجلس أمام منازلها بثياب النوم.. الجميع يتحدث عن هزات أخرى قادمة.. متى؟ لا أحد يعرف..
وجدنا أفراد العائلة أخرجوا الكراسي. جلسنا نتبادل الحديث مع الجيران.. الواتساب وحده شغال.. بدأت الاتصالات:
ـ علي بخير..
ـ الأهل بدوار العسكر بخير
ـ الأهل الذين يسكنون بالعمارات.. الهاتف لا يجيب. كم هو صعب ومقلق أن يكون لك قريب يسكن بالطابق الخامس.. لا كهرباء، لا مصاعد تشتغل.. يجب أن تكون قويا لتنزل كل هذ السلالم، ولا ترتعش رجلاك.. مع هول الفاجعة لم يعد هناك منطق. في أية لحظة يمكن أن يسقط عليك جدار، وينتهي كل شيء. لن يراك أحد في الظلام ليقدم لك الإسعاف. ستئنّ تحت الأنقاض.. لن تنجو إلا إذا حدثت معجزة. أنت وحظك العاثر. بعض النساء يتحولن إلى رجال.. وبعض الرجال يتحولون إلى نساء..
أكثر من ساعة، ونحن تحت أضواء الهواتف والسيارات.
بعد الاطمئنان على الأهل والأقارب، يأتي دور الأصدقاء.. الأخبار تتوالى.. قلبي على المدينة القديمة.. الجدران ليست قوية.. والكثير من الدور الآيلة للسقوط لن تسلم. الأخبار تقول بأن إقليم الحوز نواة الهزة، تضرر أكثر من غيره.. نداءات الإغاثة تتوالى بلا وجوه.. الناس تبكي في صور مظلمة، وتطلب النجدة.. سيارات إسعاف تنتقل إلى جماعة إيغيل مركز الهزة.. الطريق وعرة وجبلية.. الأحجار كبيرة وضخمة تقطع الطريق.. والناس هناك يستغيثون.. في ظلام الليل ترحل أرواح كثيرة خارج إحصاء نشرات الأخبار.. بدا أن الفاجعة كبيرة.. نحن لا نتابع ما يجري في نشرات الأخبار.. نقف في ساحة صغيرة منقطعين عن العالم .. البعض يلتقط صورا أو فيديوهات.. لا نستطيع مبارحة المكان.. الهزة كانت قوية. قيل بأنها وصلت سبع درجات..
ربما العالم يرى بعض هذه الصور، ويواسينا من بعيد..
ألمانيا على الهاتف.. ابنتي اتصلت بها إحدى صديقاتها من أمريكا، وأخبرتها أن زلزالا قويا ضرب المغرب.. ثم الدار البيضاء .. آكدير .. تطوان .. الحي المحمدي .. باب ايلان.. عين مزوار.. كندا.. أمريكا .. النمسا.. الصويرة.. الجديدة.. الواتساب لا يتوقف.
اليوسفية: الواتساب لا يجيب، والهاتف لا يعمل.. يجب أن تقتصد في الحفاظ على البطارية، وعلى رصيد الانترنيت.. أنت لا تعرف إلام سيتطور الوضع في الساعات القليلة القادمة.
لا يمكن أن تتحرك من مكانك. الساعة الرابعة صباحا.. الجو بارد في الخارج.. خرجت فقط بقميص صيفي.. فكرت في العودة إلى البيت لارتداء جاكيت. قدموا لك بطانية رقيقة التحفت بها.. تعبت من الجلوس فوق الكرسي.. شعرت بآلام في الظهر.. قررت الدخول إلى البيت.. تمددت فوق السرير.. أغمضت عينيك.. لم تنم .. استرحت قليلا.. أشعلت الهاتف.. تابعت الأخبار.. كلما أغمضت عينيك، تخيلت أنه يمكن أن تحدث هزة جديدة ويسقط فوقك الجدار.. منذ يومين لم تنم جيدا.. نمت حوالي ساعة نومة الذئب.. عين مغمضة، وعين مفتوحة على المجهول.
كنت في قلب الزلزال.. لم نكن أمام تلفاز..
في الصباح بدت الأخبار مفجعة، لكنها جافة بلا قلب..
مراكش09 أيلول 2023


الكاتب : حاميد اليوسفي

  

بتاريخ : 16/09/2023