محمد إبراهيم بوعلو.. المثقف المختلف

 

(1) على هامش السيرة:

يعتبر محمد إبراهيم بوعلو من الأصوات الإبداعية المتميّزة في أجناس أدبية متنوعة كالقصة القصيرة الذي يشكّل أبرز أعمدتها الأساسية بالمغرب، والرواية والمسرح، كما يمثل نموذج المبدع الملتزم بالكتابة السردية النابضة بواقع المجتمع وهمومه وانشغالاته، وينتمي بوعلو إلى جيل الستينيات، الجيل الذي قدّم للثقافة المغربية كنوزاً إبداعية وفكرية يشهد عليها المنجز الإبداعي والفكري والنقدي، والحامل لآمال وآلام المجتمع المغربي والمنغرس في أسئلته والمرتبط بالقضايا العربية التي وسمت تلك المرحلة الفاصلة والفارقة في تاريخ الأمة العربية. ويمكن وصفه بالمثقف المختلف نظرا لتعدّد اهتماماته الإبداعية، وانخراطه المبكر في خلق دينامية وحركية في المشهد الثقافي المغربي، عن طريق الإسهام في تأسيس مجلات متخصصة بالجانب الثقافي، ومجلة «أقلام» التي ظهرت 1964، فقد كان بوعلو وأحمد السطاتي من أبرز الفاعلين فيها والساهرين على إخراجها للوجود، وقد تميزت هذه المجلة باحتضان غالبية المثقفين المغاربة بمختلف مشاربهم الإبداعية والفكرية والسياسية، فكانت بحقّ مشتلاً لتشكيل وعي ثقافي وفكري عقلانية في جوهره، وإنساني في أبعاده، بل يمكن اعتبارها نافذة يطل منها الإبداع المغربي ليضيء سماء الثقافة المغربية. ولا ننسى أدواره الفعّالة إلى جانب المفكر المغربي محمد عابد الجابري في إصدار مجلة «فكر ونقد» التي كانت فلتة إبداعية لن يجود بها زمن الثقافة بالمغرب، نظراً لما أسدته هذه المجلة من خدمات جليلة في تطوير الحياة الثقافية وتقديم تصورات فكرية ونقدية وتربوي وإبداعية جديدة أسهمت في خلق تراكم معرفي لا يستهان به.

(2) رائد القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً:

محمد إبراهيم بوعلو اسم إبداعي استثنائي نظرا لمنجزه السردي الذي يستحيل تجاوزه دون التوقف عند معالم إبداعيته وجمالياته المقترحة، دون إغفال كونه رائداً من رواد فن القصة القصيرة جدّاً التي برِع فيها، وقدّم أفقا قصصيا مفتوحا على كتابة سردية تنتمي إلى الحياة بتفاصيلها وإشكالاتها. وما يمكن قوله في حقّ هذه التجربة أنها ذات سماتٍ أقلّ ما يقال عنها مختلفة وثرية بمحتوياته الفنية والجمالية. ولاغرو في ذلك فالمبدع بوعلو يمتلك وعيا فكريا بمرجعية فلسفية، خصوصا أنه كان أستاذا جامعيا لمادة الفلسفة، فالروح الفلسفية سرت وتسري في شرايين كتاباته الإبداعية، إضافة إلى العمق الرؤيوي الذي يطبعها، ويحولها إلى عوالم تنضح بمتخيل ينهل وجوده الجمالي من الواقع والخيال. ولعل مجموعته القصصية الأولى «السقف» تثبت جدارة الكاتب بوعلو في ريادة الإبداع القصصي بالمغرب، ولا غرابة في ذلك مادام صاحبها مالك للمعرفة بهذا الجنس ولرؤية ثاقبة تسترفد من روافد معرفية ذات الغنى والثراء.

(3) سمات الكتابة الإبداعية :

ما يميّز الكتابة الإبداعية عند محمد إبراهيم بوعلو أنها تنبثق من تربة مغربية أصيلة وذات امتداد واقعي متجذر في الذاكرة والحياة اليومية لمجتمع يمور بتحولات ومتغيّرات كان لها الأثر على المعيش اليومي وعلى حياة الناس، فكان بوعلو صياد هذه الصور المجتمعية التي يحوّلها عن طريق لغة سردية لا تنتمي إلا لنفسها ولحرارة الواقع، فهي لافحة المعاني وطافحة بالدلالات، مثقلة بأسئلة الذات في علاقتها بقضايا الوطن، لغة تنبض بمرارة المغاربة وهم يذوقون العذابات و الإحساس بالغبن جرّاء واقع الحرمان والبؤس -على حد تعبير أحمد السطاتي- بل هي لغة تصويرية حيث تقدّم لوحات تشكيلية يتداخل فيها الواقعي بالخيالي، الحقيقي بالمجازي، والفني بالجمالي، وهنا مكمن فرادة بوعلو وتفرده بصوته الإبداعي المختلف.
كتاباته تحمل في أوصالها صوت المجتمع المبحوح والجريح، والشجي، تلتصق بهموم الأفراد والجماعة للتعبير عن آمالها وآلامها، وهذا ليس طارئا بالنسبة للمبدع نظرا للانخراط المبكر في القضايا المجتمعية، فهو مثقف عضويا لا يفصل بين الثقافة والمجتمع، بل هما كلا واحداً لا ينفصلان. وهذا الانتماء للكتابة الواقعية لم يضع بينه وبين عالم البراءة حاجزا، بقدر ما جسّر ملكته الإبداعية بعالم الأطفال ، من خلال الاهتمام بأدب الأطفال حيث أبدع منجزا حاول فيه اقتناص هذه العوالم الطفولية بطريقة سردية فيها الجِدّة والسّبق. كما أن كتابات بوعلو انمازت بالسمة الساخرة والفكاهية، حيث يتعالق أسلوب السخرية والتهكم في جلها، تزيده توابل الفكاهة والفانطاستيك جمالية وأبعاداً نظرا للغة المكثفة والمختصرِة لعالم المفارقات والتناقضات التي يعج بها المجتمع المغربي. لهذا فهو صوت مجتمع الهامش الحالم بوطن يسع الجميع.

(4) المثقف المغبون:

وبالرغم من المنجز الإبداعي السردي والمسرحي والقصصي، فإن محمد إبراهيم بوعلو لم ينل حظه من النقد إلا القليل من الاهتمام والعناية من لدن المؤسسة النقدية بالمغرب، وذلك راجع إلى تعفّفه، وابتعاده  عن الجدالات والصراعات القائمة بين العائلة الثقافية، مما جعله يختار العزلة عقيدة ومقاماً بعيداً عن جلبة المناكفات والحروب والدسائس بين الإخوة الأعداء. ومردّ ذلك إلى المبادئ والأخلاق التي يتحلى بها بوعلو والمؤمن بجدواها في حياة الفرد والمجتمع، لذا ظلّ طيلة عمره الإبداعي الذي دام ثمانية عقود مخلصاً لكتاباته التي تجسّد تطلعات المجتمع المغربي، ولمواقفه التحررية والتقدمية.

(5) رحيل المبدع
في صمتٍ إعلاميّ :

يرحل محمد إبراهيم بوعلو دون أن تسلط عليه الأضواء عبر الوسائط الاجتماعية أو عبر الصحافة المكتوبة، للتذكير فقط بما خلّفه من منجز إبداعي حتى تتطلع عليها الأجيال القادمة، لكن يبدو أن المبدع في المغرب جريرته أنه كلما كان مخلصا لنهجه في الحياة والإبداع الخلاق والاستثنائي كان مآله النسيان والإقبار من ذاكرة ثقافية مجحفة. ومع ذلك سيبقى محمد إبراهيم بوعلو رغم الغبن الذي مورس مثقفاً مختلفاً، ترك للمكتبة المغربية والعربية متناً يحتاج إلى أكثر من وقفة للكشف عما يزخر به من جماليات، هكذا ستظل مجاميعه السردية « السقف» و» الفارس والحصان» و «50 أقصوصة في خمسين دقيقة» و» الهروب» و»الحوت والصياد» و» الأمر يهمك» و»الصورة الكبيرة» وكتاباته المسرحية « الجولة الأولى» و»الاتفاق» و»عودة الأوباش» قِبلة للأجيال القادمة من مثقفي ومثقفات، مبدعي ومبدعات المغرب الممتد في المستقبل.


الكاتب : صالح لبريني

  

بتاريخ : 01/03/2024