مذاقُ النّجاح والطّريقُ إلى المَاء : قراءة في سيرة «طفولة بلا مطر» لإدريس لـكرينـي

 

أولا: ميثاق الكتابة: مفارقة السيرة والقانون
سيرة الطفولة غير… والقانون الدولي غير… وبينهما برزخ يبغيان

من يعرف إدريس لكريني ومسيرته المهنية، ومجال اشتغاله العلمي، وبالأحرى من اطلع على مؤلفاته العديدة (انظر موقعه الإليكتروني: https://drisslagrini.com/cv) والمنابر المتنوعة التي ينشر فيها مقالاته ودراساته، أو على الأقل من تعذر عليه كل ذلك، وتابع فقط حضوره الوازن في وسائل الإعلام المغربي، وموضوعات مداخلاته، يستخلص، بكثير من اليُسر، أنه باحث في القانون، وبالتحديد في القانون الدولي والعلاقات الدولية وما يرتبط بها. ومن تحصيل حاصل، إذا علمنا أنه أستاذ باحث بكلية العلوم القانونية، بجامعة القاضي عياض بمراكش. استنادا إلى ذلك، وتأسيسا عليه، يظهر أن إدريس لكريني بَعيدٌ كل البُعد عن مجال الكتابة الأدبية والفنية التي يندرج ضمنها كتابه الجديد، طفولة بلا مطر (2023). كتاب يظهر أنه في وضعية «شرود» ضمن مسار الكتابة عنده وما راكمه فيها، ممّا قد يُثير استغراب قُرائه، وعَجبَ المتتبعين لمساره العلمي والمهني.
صحيح، التاريخ الأدبي يشهد بأن كثيرا من غير المحسوبين على الأدب هُم من يتفوق كثيراً في الكتابة في الأدب بمختلف أجناسه فالإبداع فيها، سواء أَكان انتماؤهم إلى الطب أم إلى الهندسة أم غيرهما. ربما يكمُن «سر» ذلك في كون الكتابة واحدة بالنسبة للإنسان، من جهة المبدأ، وهي متقاربة من جهة الغايات والمقاصد، وإن اختلفت من حيث التقنيات والطرائق وموضوعات الاشتغال. تلك إذن فرضية يشهد لها، على الأقل في سياقنا، إدريس لكريني. فهو كاتب محترف، لا يتوقف قلمه عن الكتابة والتأليف، وإن في باب تخصص القانون الدولي والمنازعات وما جاورهما. وما كتبه في هذا الشأن، وألّفه في هذا الاتجاه يؤكد هذه الفرضية ويعززها. (للاطلاع على هذه المؤلفات يمكن زيارة موقعه الإليكتروني الآتي: https://drisslagrini.com/cv)
مع ذلك، فكتاب «طفولة بلا مطر» لا ينتمي إلى مجال القانون وما يتصل به، ومن حق العارفين لإدريس لكريني والمتتبعين لما يكتبه أو حتى المتتبع لتدخلاته في مختلف منابر الإعلام المغربي وغير المغربي أن يستغربوا، وبالتالي أن يتساءلوا، وبين أَيديهم كتاب عن سيرة طفولته، مُذ سلّمته أمه إلى الفقيه سي حسن، ليتعلم القراءة والكتابة ويحفظ القرآن في قرية بني عمار(ص7) مرورا بمحطة الالتحاق بالمدرسة الابتدائية، والإعدادي فالثانوي بمدينة فاس، وصولا إلى محطة زيارته فرنسا بعد حصوله على شهادة الباكالوريا، تتويجا لمسار صعب ومتموج. الأمر الذي يُسائلنا عن علاقة إدريس لكريني بالأدب وما يتصل بالكتابة الأدبية والفنية، وما تقتضيه من ملكات ومهارات وتقنيات مخصوصة للمحسوبين على الأدب والخائضين فيه دون غيرهم من التخصصات. بعبارات أخرى، هل يمكن لخريج من كلية العلوم القانونية، ومتخصص في القانون الدولي، والعلاقات الدولية، بمسارها المعقد والمتشابك، والممتد في غيره، أن يكتب في تخصص ينتمي إلى الأدب، وما يرتبط به؟ باحث في القانون الدولي يكتب عن سيرة طفولته، باعتبارها جنسا أدبيا بعيداً عن القوانين الدولية واستراتيجياتها وطبيعة منازعاتها؟

مغامرة الكتابة السيرية أو العودة إلى الأدب…

إن من يقرأ سيرة طفولة بلا مطر لإدريس لكريني، رغم أنه لم يُعين جنسها الأدبي، على عادة كثير من الأدباء، يمكن أن يجد بعض المعالم التي تخفف من غلواء العجب الذي يستبد بالقارئ، وهو يعرف أنه باحث في القانون العام والقانون الدولي، وليس أديبا ولا كاتبا في الأدب ودائرته. والقانون غير الأدب… والأدب غير القانون…. ومع ذلك فقد تلاقيا في الكتابة عند إدريس لكريني، نوعا من الالتقاء، يتصل هذا بذاك وقد ينفصل عنه، وتقاطعا في عموميات الكتابة وقواعدها العامة، اتصالا وانفصالا، علما بأن الكتابة في القانون الدولي ليست هي الكتابة في الأدب وفنونه، ذاك يكتب بإبعاد الذات والحرص على المسافة بين الذات والموضوع، وهذا ينطلق من الذات إلى الذات، ويعرضها لفُرجة الآخرين. الأولى تقوم على التحليل والتأمل والبناء الحجاجي، واستخلاص النتائج، والثانية رغبة في البوحِ، وتأبين لزمن انفصل عن الذات، وتحاول هذه الذات ترميمه، كما تعتقد أنه قد حصل، بأحداثه ووقائعه لتعرضه فرجة للآخرين. بهذا المعنى، تصير السيرة، وشاية بالذات، ودعوة الآخرين لمعرفة رحلة السيرة، وما تعرضت له الذات من ظلم أو عائق أو مشكل أو صعوبة أو غير ذلك، وفي الوقت نفسه، ما حققته الذات نفسها من نجاحات، وفتوحات، وانتصارات صغيرة وكبيرة، هنا أو هناك، عن ذاك أو تلك، أو ذانيك…
من هذا المنطلق، تندرج سيرة «طفولة بلا مطر» لإدريس لكريني، وإن جاهد الكاتب نفسه ليفصل بين الباحث في القانون الدولي في مراكش، والكاتب للسيرة عن طفولته في بني عمار بنواحي زرهون. ويظهر هذا الجهد المبذول في انتصار الأدب، والكتابة الأدبية ورُجحانها لتمكِّنها في نشأة الكاتب الأولى ورسوخها. بناء على ما تقدم، ونحسبه مجرد فرضية للاختبار، نعتبر، سيرة طفولة بلا مطر، عودة للأدب أو بالأحرى «استيقاظ» الأدب في الطفل الذي كان، وخروجه من قمم ظل ثاويا في أعماق الذاكرة. ففي السيرة مؤشرات قوية على حُب الطفل المبكر لكتب الأدب، خاصة الروائية والقصصية منها. فلم ينس الكاتب أن يُذكرنا، على امتداد سيرته، بهذا الحب «الجارف»، بل وأن «يتباهى» بمنجزاته وفتوحاته في هذا الباب. فبمجرد التحاقه بالمدرسة يُخبرنا «الطفل الراشد» أن أباه قد جلب له مجموعة من الكتب، وكان «يراقب تلك المؤلفات المتنوعة بين الرواية والقصة والتاريخ كل حين»، وأمله أن يكبر ويتقدم في دراسته ليستطيع قراءتها. وكذلك حصل، إذ ما إن تدرج في أسلاك التعليم، حتى شرع في قراءة «جزء منها في سن الثانية عشرة كقصص قصيرة للأديب المصري محمد عبد الحليم عبد الله، وأخرى لأنيس منصور، فكانت مقدمة الإقبال على قراءة عدد من الكتب الأدبية فيما بعد»(ص19).
لم يكن الطفل كباقي أطفال قرية بني عمار وفضاءاتها المجاورة، بل كان بِكر أبيه وأملِه، ورجل البيت في أثناء غياب الأب إلى ديار المهجر. في قرارة نفسه كان «يلعب» دور الأب ويدرك ثقل المسؤولية على صغر سنه، ولذلك، أيقن أن الطريق إلى ذلك والنجاح فيه يقتضي الإقبال على القراءة وما يتصل بها. هكذا، كان طفلا بأحلام كبيرة، يقرأ الصحف والمجلات والدوريات ويقتني المتيسر منها، يعشق الحكي ويُقبل عليه. ذلك ما يخبرنا به السارد الكاتب، ويفصِّل فيه، إذ كان الطفل يُعجب بالإنصات لحكايات أفلام هندية، ولا يتردد في الذهاب باستمرار للاستماع إلى الحكايات في «حلقات» شعبية والاستمتاع بها. كان مولعا بحكايات السيدة رحمة، و»حكاياتها عن «حديدان» و»الغولة» و»الأم العجوز» (ص27)، ومقبلا على حكايات السيدة زينب عن بطولات السكان وهم يواجهون المستعمر الفرنسي (ص57) وشغوفا بحكايات سيف ذو يزن ومغامراته التي تُنمي الخيال وتخصبه (ص93-95)، ومُولها بحكايات «حلقة» الملائكة التي كان ينشطها رجل في الخمسين من عمره، يدعى «الأقرع» بشخصيته الكوميدية»(ص94). فضلا عن ذلك، فقد كان الطفل إدريس، كما يحكي في سيرته عن طفولته، أنه كُلَّما مرّ: «على كشك للصحف والمجلات أقرأ العناوين، وأفتش عن مجلة «البراعم» التي كانت تأسرني بألوانها ومواضعها» (ص96). في المجمل كان الطفل مُحبا للكِتاب وفضاءات الكتاب الأدبي خاصة، والإقبال عليها. لذلك، انخرط في دار الشباب التي فتحت له أذرعها، ووفرت له حاجاته من القصص والروايات، ومكنته من كتب تاريخية وسياسية ومجلات مختلفة، فتحت أمامه « عالما آخر»، «في الثقافة والإبداع»(ص101). تلك إذا هي بعض المؤشرات الدالة على الميل المُبكر للطفل إدريس إلى عوالم الأدب، ومغامراته في الفن، وفضوله المعرفي، والتي أذكت حُلمه ليقرأ الرسائل والحوالات التي كان تصله من أبيه في ديار المهجر بفرنسا، على غرار ابن جارته «فتاح»(ص9).
كان لهذا العشق بالكتاب والقراءة، وعشق الحكاية، وحُب المعرفة زمن الطفولة آثاره المباشرة ليس على الطفل فحسب، بل على أستاذه في اللغة العربية، خاصة لمّا عرض «عليه بعض الخواطر والأشعار، فأعجب بها»، وطلب منه قراءتها أمام التلاميذ، وكثيرا، بلغة الطفل الرائد، «مما حثّني على السير في تخصص الآداب العربي، بل ورشحني لدى إدارة المؤسسة لاجتياز مباراة تتم على المستوى الجهوي باسم الثانوية في هذا التخصص» (ص139). كان الطفل، فضلا عما سبق، ميالاً إلى الفن والتشكيل(ص66)، وكان، فوق كل ذلك، «مُغرما» باللغة العربية، وينتظر حصتها بفارغ الصبر(ص65)، لما تُوفر له من تقدير أستاذها من ناحية، وما تتيحه له، أيضا، من فرصة الإسهام في المجلة الحائطية، من ناحية أخرى (ص66).
لكن جرت رياح إدريس بما لا تشتهيه سُفنه وسُفنَ أستاذه في العربية، ربما ككثير من جيله ممن سبقوه أو جاؤوا من بعده. فقد كبُر الطفل، ووجد نفسه في كلية العلوم القانونية، دون أن يَلْوي على شيء، وفي وضع «عقوق» أستاذه للغة العربية، الذي حثّهُ على التخصص في الأدب العربي، بالنظر إلى ما لمِسَه فيه من قدرات وكفاءات في هذا التخصص. بناء عليه، فلا غرابة إن كتب إدريس لكريني سيرة طفولته، بهذه الكفاءة والتّمكن والنّفَس الأدبي الصّرف، واعيا به أو غير واعٍ، لتصدق بذلك نبوءة أستاذه في اللغة العربية وتتحقق، ربما قد يبرّ به بمزيد من الكتابة في الأدب وما يدور في فلكه، مما ليس بعزيز عليه، إن عاد إلى طريق الأدب وأخلص لها، وغَرِف من ماء الحياة والأدب وقد طوقا طفولته ووشمها.

ثانيا: السيرة بين بُوح الطفل وحِكمة الرّاشد

إن الكتابة عن مرحلة الطفولة، والعمل على استكشاف عوالمها المجهولة، وقد انقضى زمانها، لمغامرة غير مضمونة النتائج. فالسيرة، بأنواعها، لا تكتفي بسرد ما وقع بالفعل في زمن يحدده الكاتب بوعي وقرار، بل تسرد كذلك ما يمكن أن يقع، إن وقع، وتسرد كذلك ما لا يمكن أن يقع مما يدخل في إطار الرغبات المجهضة، أو الأحلام المعلقة. ألم يكن إدريس طفلا قرويا «ظل يحلم بما خلف التلال المقابلة عند كل غروب وسعي للإمساك بخيوط الكثير من اللحظات بدفئها وشغبها وأحلامها وآلامها، وللتوقف عند أحداث عابرة تجسد في مجملها تحديا لقساوة الطبيعة وانتصارا للحياة؟ (ص5).
«السيرة لحظة بوح…»، كما قال الكاتب نفسه، وقد حرص على كتابتها، على حد ادعائه، «بشعور الأطفال» وهو راشد، وما تسمح به ذاكرة طفل، وقد جابت أمكنة، وعاشت أحداثا، وتفاعلت مع وقائع، وشاركت في مغامرات، وانخرطت في رحلات، وكابدت تجربة الجفاف وقسوتها، وذاقت معاناة مختلفة في الكراء والحمّام وحذاء النحس(ص122)، كما عاصرت إضرابات 1990 ومآسيها، وسمعت صوت الرصاص يُلعلع في إضرابات يوم 14 دجنبر 1990، بساحة بن دباب بفاس، وباب بوجلود،(ص133-134)، وتابعت ما جرى في فلسطين وللفلسطينيين ومجاز الاحتلال الإسرائيلي، و تذكرت الأوضاع الإنسانية المؤلمة عصرئذ في « البوسنة والهرسك»(ص128) وتحدّثت عن حرب الخليج وتداعياتها في «أعقاب دخول القوات العراقية للكويت شهر فبراير 1991، وقصف صدام حسين تل أبيب بصاروخ سكود(ص140). فما يحكيه «السارد» أو الكاتب عمّا علِق في طفولته من أحداث دولية وأخرى وطنية ومحلية كانت «منقوشة في ذاكرته»، ومدونة «ضمن مذكرات طفولية» (ص5)، وإن لم يعين حدودها كما فعل عبد الله العروي في خواطره، على سبيل المثال، وقد يكون دمجها في حكيه وذابت في تفاصيله، قد أسهمت في بناء شخصيته ورسم ملامحها في الأفق المنظور.
رغم ذلك، يظل هذا البوح نوعا من تأمل مسار رحلة طفولة إدريس ومسارها ومسيرتها، وهي أحيانا أخرى، ادعاء بتملكها والقبض على سيرورتها، وتفاصيل مجرياتها، إن لم نقل التماهي معها. وهذا أمر فيه نظر، ما دامت كتابة السيرة لا تقف عند حدود حكي ما وقع بالفعل، علما بأن الكاتب لا يحكي ما وقع فحسب، مما نوى كتابته في مذكرات، إن وُجدت (ص6)، وهو يظن سهولة الاستحضار لكثير من لحظات طفولته، بل ويحكي كذلك ما ينوي فعله وما لم يفعله، أو حتى ما فشل في فعله لسبب أو لآخر. فالكاتب غالبا ما يكتب سيرته إما للدفاع عن نفسه تجاه واقع معاكس له، أو الاعتداد بالذات والتباهي بما حققته من تجاوز لتلك الموانع والتغلب عليها، كما فعل إدريس لكريني في قرية صغيرة مهمشة في «عمق المغرب»، وداخل أسرة صغيرة تحضر فيها الأم أكثر من حضور الأب، وأحيانا «يلعب» دور الضحية لاستدرار عطف القارئ وإبعاد المحتمل من شبهات التقصير في وضع ما، أو زور الاتهامات في موقف معين …
لقد جاهد إدريس نفسه لاستعادة ماضي طفولة بلا مطر، دون سند واضح من يوميات أو مذكرات أو مسودات أو حتى وثائق تحفز الذاكرة وتنشطها، وتقربه من حقل التاريخ و»صلابته»، وتُبعده عن الأدب و»ليونته»، ومع ذلك، فقد قرر، بدعم أسري وبعض الأصدقاء المقربين، بعدما علّق البحث الأكاديمي في «الأحداث والقضايا الدولية الصاخبة»(ص5)، أي القانون العام الدولي، أن يستضيفها ويحتفي بها، وبعلاقتها بغيرها، ويجعلها فرجة لقرائه، مدعيا أيضا أنه يقول الحقيقة ولا شيء سوى الحقيقة عن طفولة بلا مطر جرت أطوارها في قرية بني عمار وفي فضاءات زرهون وفاس وفرنسا. فالكاتب يدّعي أن ما يحكيه عن طفولته إنما يتطابق مع الواقع ويشهد لما نقش في ذاكرة الطفل الراشد. فالأمر في السيرة لم يعد يتعلق بالتطابق ولا بالتماهي ولا حتى بالتشابه بين الكتابة والواقع ووثائق التاريخ، وما تختزنه الذاكرة على طريقتها. فكيف يمكن لطفل أن يدرك أبعاد ما يجري من حوله في إضراب 1990، وأسبابه وأهداف صُناعه، ومآل الحوار بين طرفي المضربين من عمال وطبقة شعبية والنقابة والحكومة؟ كيف له أن يشعر بعظمة التاريخ في دروب مدينة فاس، وتقدير جامعة القرويين بأنها أقدم جامعة في العالم، منحت إجازة في الطب على المستوى الدولي»(ص118)؟ من يكتب ويعلق ويؤول ويستدل ويستخلص؟ أهو الطفل زمن طفولته أم الكاتب الباحث والراشد، وقد تمرس بأدوات الكتابة، وتمثل آلياتها، وأدرك خلفياتها وأبعادها، واتسعت ثقافته وامتدت، وطاوعته العبارة وتروضت؟
لا شك أن السارد أو الكاتب يعي صعوبة كتابة السيرة عن طفولة بمطر أو بدونه، في قرية بني عمار وجوارها، ومع ذلك غامر في كتابتها، مطمئنا لهوى أسرته الصغيرة والكبيرة، واثقا من قوة ذاكرته، وقد اشتد «حنينه للطفولة ولرائحة التراب والأشجار ودخان الفران البلدي…» ومطمئنا لإمكانية استعادة ذكريات الطفولة والتأريخ «لزمن غابر». مبادرة الكتابة عن الطفولة جريئة وصعبة، لما يحايثها من مزالق ومقالب مدارها الذاكرة والثقة الزائدة فيها. كيف لطفل أن يسترجع أحداثا مطوية في الذاكرة ويغوص في تفاصيلها، ويستعيد شريط طفولته في شكل مشاهد متدرجة من قرية مغمورة إلى زيارة فرنسا، من ولوج الكُتّاب إلى المدرسة مروراً بالإعدادي فالثانوي فالحصول على الباكالوريا؟ فكيف يمكن لطفل قروي أن يمسك، بهذه الثقة واليقين، «بخيوط الكثير من اللحظات بدفئها وشغبها وأحلامها وآلامها، ويتوقف عند أحداث عابرة تجسد في مجملها تحديا لقساوة الطبيعة وانتصارا للحياة»؟ (ص6)، ثم لماذا أصر إدريس على كتابة طفولة، هي طفولته، في زمن قلّ المطر، وشحّت السماء، وساد الجفاف، وطالت سنواته العجاف، وفي الوقت نفسه، عاش فيها الطفل متحديا بين الدفء والصدمة، وبين الفرح والحزن، وبين العسر واليسر، وكانت الحصيلة أن عاش طفولته ممتلئة بما يخص الطفولة ويميزها، من لعب ومغامرات، وتجريب ودراسة وتعلم وتحصيل، ومناورات وسفر وإبداع، إلخ، كانت سنوات سِمان تُوجت بالنجاح، كما تمناه الابن والأب والأم والأسرة…نجاح بمذاق وجودي. وكأنه يقول بسان طفل راشد، انظروا أيها القراء، والحكم لكم، أين جئت (من قرية بني عمار وبلا مطر ولا ماء، وفي مغرب عميق مهمش، وقد هاجر والدي بعيدا، وتركنا وحدنا مع أمنا، وقد تولت المسؤولية على صعوبتها في مجتمع ذكوري لا يرحم… وقد تغلبت على كل ذلك، ونجحت في الوصول إلى ما وصلت إليه باحثا وكاتبا وعَلماً، وشهرة ومقاما…مما يُسائل الكاتب وكل كاتب عن السر في كتابة السيرة والإقدام على مغامرتها؟

ثالثا: الطفولة الصعبة والنجاح المستحيل

لماذا كتب إدريس لكريني سيرة طفولته؟ هل كتبها لتأبين زمن عاشه في بني عمّار ولم يُعد؟ هل كتبها لينسى ما عاشه من إخفاقات صغيرة، وما اعترض طريقه في مناسبة أو أخرى أم كتبها ليتذكر ما مرّ به، ويستعيده ليُذكر غيره من المقربين والبعيدين بماض هو ماضيه حتى يتباهى بنجاح «مستحيل»؟ هل كتب طفولته ليبرهن من خلالها على تميز سيرة طفولته؟ هل كتبها ليوحي إلى قارئها أين كان؟ وكيف أصبح؟
عاش الطفل إدريس طفولة صعبة، ليس فقط لأنها بلا مطر، وبلا ماء، ولكن كذلك لغياب الأب وتحمل مسؤولية فوق طاقة طفل عاش ممزقا بين واقع أب هاجر مكرها إلى خارج الوطن، فغاب عن رعاية ابنه ومتابعة مسيره، وبين واقع أمّ مهيضة الجناحين، تحملت مسؤولية مزدوجة، ترعى إدريس في الداخل أكلا وشربا ورعاية، وتحرس عليه في الخارج وتراقبه وتشرف على تربيته وتعليمه، وهي تدرك جيدا، على أميتها، رسالتها الأبدية. خاطبته ذات لحظة مبتسمة، وقد صاحبته أول مرة إلى المسيد: «ستتعلم القراءة والكتابة وتحفظ القرآن» (ص7). وكذلك كان، الطفل أبو الباحث في القانون الدولي والمنازعات. مسار طويل ذلك الذي قطعه إدريس حتى صار باحثا أكاديميا ناجحا وذا سمعة وطنية ودولية، وقد كان نَسيا منسيا في قرية منسية، وظل ظروف صعبة، معاناة غُربة أبٍ قاسية بحثا عن لقمة عيش كريمة لأسرته، وحضور دائم لأمّ مكافحة «ناجحة» في أداء الرسالة.
على هذا الأساس، يبدو أن كتابة سيرة إدريس عن طفولته هي بمثابة دعوة للقارئ إلى «الفُرجة» عن ذات هي ذات الكاتب وهو يستعيد طفولته في بني عمار، وزرهون ومكناس وفاس وخارج الحدود بفرنسا، كما تصورها أنها كانت، وكذلك جرت أطوارها. فهي كتابة استرجاعية، يقوم فيها كاتبها أو ساردها، بمحاولة بناء وقائع وأحداث (تاريخ/ حقيقة) يظهر له أنها مرت، وهي تحكي بعض تفاصيل طفولته المتناثرة والمتشظية في ذاكرته، رغم ما يمكن أن يعتريها من آفات النسيان وغفلة الزمن، وانتقائية الذاكرة، وأهواء الانتماء، ومقالب اللغة. فلو أعاد كتابة سيرة طفولته مرة أخرى لكتبها بصيغة أخرى وإخراج غير الإخراج. تلك حكمة الأدب ومقالبه التخييلية.
من يتكلم في طفولة بلا مطر؟ أطفل هو أم راشد وباحث يحاكي صوت طفل؟ في الحكي الكلاسيكي يهيمن صوت السارد الراشد الذي ينظم النص ويعيد بناء الأحداث والوقائع. وكأن السارد/الكاتب لا يترك للطفل الكلمة التي لا يملك وقتها، ولذلك يتحدث نيابة عنه وقد قطع لسانه. فسيرة الطفولة لا تتم إلا عبر ذاكرة راشد يملك اللغة ويتمثل ثقافتها. الأمر لا يتعلق بسيرة طفل وطفولة وذكرياتهما ولكن تُصنع على لسان راشدٍ يحكي نيابة عن طفل من خلال ذاكرة يصعب الاطمئنان إليها والركون لما تبوح به.
طفولة بلا مطر، لإدريس لكريني حالة من حالات البوح، الذي ما كان ليستقيم لولا ما يوفره السرد وتقنياته. فهو لا يحكي عن أحداث طفولة مضت إلى غير رجعة فحسب، بل يسعى إلى تشخيص سيرة هذه طفولة، التي لا تبدو ككل الطفولات، إذ يتم إدراجها ضمن تفاصيل فُرجة يجب تعميمها، رغم ما تحفل به من سعادة وألم، وفرح وحزن، وحوافز وموانع. فالسارد يحكي عن ماضٍ ولّى. والذي يحكي إنما يفعل ذلك ليقنع نفسه بقصة طفولته، قبل أن يقنع غيره. هكذا، لم يقُم إدريس، وقد أصبح باحثا أكاديميا في العلاقات الدولية وتدبير المنازعات، سوى بقراءة تجربته طفولته، كما يظهر له، بعين الراشد فيه. وكأنه بذلك، إنما يسعى إلى الإمساك بزمنية طفولته وقد ولت إلى غير رجعة، وفي غفلة منه ومن أفاعيل زمن الجفاف، وندرة الماء، وقسوة الطبيعة، وهجرة الأب، وموت الجد…
إن إدريس لكريني لا يحكي أحداثاً وقعت في قريته فحسب، وعاش تجربتها، بألم وفرح فحسب، بل أعاد قراءتها من خلال لغة غير لغة الطفل الذي كانه. إن السرد يبحث دائما في الزمن عن الحنين والندم والتحسر والزهو، والنجاح والفشل، والنصر والهزيمة، وعن المتحقق والآمال الضائعة. بعبارات أخرى، فالطفل السارد، والكاتب الراشد لا يحكي من أجل التسلية، وعن الذات وهمومها وطموحاتها وانتكاساتها، وفرحها وحزنها، وعوائقها وحوافزها؛ بل عادة ما يتم ذلك ضمن ممكنات التخييل المفتوح. فهل قال إدريس لكريني كل الحقائق عن طفولته، بالمطر وبلا مطر؟ إنه في كل الحالات، ينتقي الأحداث والوقائع التي يريد، من ولوج المسيد رفقة أمه، صغيرا ضعيفا إلى زيارة أبيه بفرنسا «رجلا» مستقلا فخوراً أن يكون ابن أبيه، إلى أفق مفتوح يتوقع أن يكون مفيدا، يتوقع أن يعيشه مع الكبار في الجامعة وما بعدها (ص150). بصيغ أخرى، فالسارد أو الكاتب من طفولته التي مرت في جفاف مقيم، ما يود أن يُبلغ به، ويسكت عما يُقدّر أنه حميمي لا يليق البوح به، ولا يقبل أن يتفرج عليه القّراء من أعمار مختلفة. فالكاتب السارد، وهو يحكي عن طفولته بلا مطر، ويصف ما يود أن يشبعه وصفا، لا يقول كل شيء عن نفسه، وما ينبغي له ذلك، ولا يصف كل ما يقع تحت عينيه مما لا يليق وصفه. تلك إكراهات السيرة بأنواعها، إذ يجد الكاتب السارد حرجا أخلاقيا أو دينيا أو عقديا أو حتى سياسيا ليبوح أو يصف، إما لموقعه الحالي، وهو باحث أكاديمي بسمعة رمزية، أو لموقع اعتباري يصعب أن يخدشه أمام المحتمل من قرائه، وهُم متعددون ومختلفون.
إن اللغة التي استعملها إدريس لكريني أو كاتب السيرة في بناء سيرة طفولته لا تقدم لنا حقيقة طفولته كما هي، وكما جرت أطوارها، وكما عاشها مذ ولج فضاء المسيد إلى أن زار فرنسا وحصل بعدها على شهادة الباكالوريا، وبدأ يحس أنه «على أبواب خوض تجربة جديدة»(ص150)؛ بل هي مجرد وسيط توسل بها للتمييز بين الاستيهام والحقيقة، بين ما حدث فعلا وبين ما أضافته ذاته الكاتبة، في سياق ترتيب أحداث الطفولة، واختيار طريقة تقديمها أو تأخيرها. فاللغة وحدها قادرة على استرجاع أحداث كانت ولم تعد، واستعادة زمنية ولت. وهي لغة راشد خبر اللغة وتراكيبها، لا يصف فقط ما يبدو له أنه جرى في طفولته، بل يعتمد لغة عالمة تُؤول، إنها نظرة بَعْدية. والدليل على ذلك، أن صورة المسيد أو المدرسة أو قرية بني عمار عموما بفضاءاتها المجاورة في عين الطفل إدريس ليست هي نفسها في تصور إدريس الكاتب الراشد. السيرة تجربة فردية محضة، ولكنها مطوقة بحقائق تبدو فعلية وموضوعية وتاريخية. فالذات كاتبة وقارئة لقصتها الخاصة. فالسيرة احتفاء بالذات في المقام الأول (أيْن كنت؟ وكيف صرت؟).
« طفولة بلا مطر» هي الزمن الذي عاشه إدريس في سيرة طفولته الأولى إلى أن حصل على الباكالوريا. إنه زمن الجفاف بامتياز، حيث شح المطر وندرة الماء في لحظة من تاريخ المغرب، وآثار ذلك على الطير والحيوان والنبات والإنسان. لذلك، كان من الطبيعي، أن تغيب الابتسامة عن الوجوه، ويعمّ البؤس، «ففي كل التجمعات تسمع: «العام قبيح» في إشارة إلى اشتداد حدة الجفاف وندرة التساقطات، يشتكي الباعة باستمرار من قلة حركة البيع» (ص61). مع ذلك، قد يجتمع الجفاف والحب، والعزف والموت، والحرب والغناء/الِّست… ليبقى الماء أصل الحياة، (وجعلنا من الماء كل شيء حي) وإن تمّ ترويضه في سياقات مختلفة عبر التجارب الإنسانية، في الديانات، كما في الأساطير، وغيرها، فصار يحيل على الخصب والخضرة والتجدد والأمل… الماء منبع الحياة ومادتها الأولى المفقودة في طفولة إدريس وجيله، أو على الأقل النادرة.
خلاصة القول، وعود على بدء، فما كان إدريس لكريني ليحكي سيرة طفولته لقرائه هذه لو لم يكن عاشقا للغة العربية ومُحباً لآدابها وفنونها، ولو لم يختزن في قراءاته الكثيرة، تقنيات في الكتابة السردية، من وصف وسرد وبناء وتقديم وتأخير، وحذف وتذكير، وبسط وتكثيف… ولو لم يستبطن نماذج من الكتابة الروائية والقصصية والتاريخية. هل أخطأ إدريس لكريني الطريق لمّا سار في طريق لم يختره ولم يستعد للسير فيه؟ صحيح، نجح في طريق لم يختره، لأنه «خُلق» للنجاح، والفرق بين أن تنجح في طريق اخترته وطريقا اختارك دون أن تختاره، ومذاق النّجاحين مختلف. فهل عاد إدريس لكريني إلى حيث ينبغي أن يسير…؟ طريق الأدب…طريق الحياة…طريق الماء، ولا ماء بلا مطر… مطر… مطر… سؤال للآتي المنظور… !!!

كلية الآداب، بني ملال


الكاتب : إدريس جـبــري

  

بتاريخ : 01/03/2024