مقاربات نقدية تسائل علم الاجتماع بالمغرب

صدر العدد 15 لسنة 2021 من مجلة المصباحية التي تصدرها كلية الاداب والعلوم الإنسانية سايس – فاس، عن دار النشرلارمطان للمغرب الكبير بباريس تحت إشراف وتنسيق د. نور الدين الزاهي، وقد حمل هذا العدد عنوان علم الاجتماع بالمغرب مراجعات نقدية1. وقد ضم داخل صفحاته مساهمات لباحثين مغاربة في علم الاجتماع، من قبيل: عمار حمداش، وناصر السوسي، وكنزة القاسمي، ومحمد زرنين، وجملية شرادي، ونور الدين الزاهي، ومحمد فاوبار.ساءلوا وتحاوروامع الأطروحات النظرية والمعرفية لعلماء الاجتماع المغاربة، ومع الإنتاجات التي تمت داخل هذا المجال وحول المجتمع المغربي، كل من زاوية نظره وتأويله للنصوص المعروضة. مساءلة دفعت النقد إلى حدوده القصوى، وجمدت باب التقديس والتمجيد، معلنة بكل وضوح وجرأة ووفق زاوية نظر مغايرة، أن لعلماء الاجتماع المغاربة (باسكون، الخطيبي، جسوس، المرنيسي وغيرهم)، نقط قوة كبرى تحمل داخلها وفي الآن نفسه، نقط ضعف كبرى كذلك، هذا الضعف هو ما يتفادى القارئ (وليس أي قارئ) بوعي أو بدونه الوقوف عند عتباته وفحصه في جذوره وخلفياته. كل هذا بسبب ما أطلق عليه في تقديم هذا العدد، نور الدين الزاهي «التقديس القاتل» والاستهلاك الساذج». استهلاك وتقديس سيضعه من ساهم في هذا العدد جانبا، وسيذهبون بقراءاتهم نحو «زاوية عرض أطاريحهم، وكذا مراجعة مراجعاتهم النقدية للمنظومات المعرفية الكولونيالية وغير الكولونيالية، وللموضوعات التي شيدوا عليها صروحاتهم النظرية». ولعدم اتساع المقام لعرض ملخص كل المراجعات التي أتت في هذا العدد، سنكتفي باستحضار أربعة نماذج، من هذه المساهمات وتبيان الأسس التي بنى عليها أصحابها نقدهم لأطروحات علماء الاجتماع الذين تم ذكرهم. وتتوزع هاته النماذج تباعا كالتالي:
1- عمار حمداش «من النقد المزدوج إلى البناء المزدوج، من أجل خريطة بحث للعلوم الاجتماعية بالمغرب».
2- ادريس منصوري «بول باسكون وروبير مونتاني ، الإحالة الغائبة» ترجمة ليلى البوطاهري.
3- محمد زرنين «مراجعة نقدية لبول باسكون للدارسات العقارية».
4- نور الدين الزاهي «الخطيبي، وغيلنر، سياقات ومضمرات النقد المزدوج».

 

عمار حمداش « من أجل خريطة بحث للعلوم الاجتماعية بالمغرب»

تنطلق مساهمة الباحث عمار حمداش، من زاوية نظر مغايرة لتلك الأعمال التعريفية المألوفة عن الإنتاج المعرفي الكولونيالي حول المغرب، حين تقديمها لهذا الإنتاج عرضا أو تحليلا ونقدا، كلا أو بعضا، خلال مرحلة معينة، أو عبر مسار تطورها العام. وبالتالي فإن ما يتوخاه عمار حمداش من مساهمته هذه، لا يقف عند مجرد بيان أسس وشروط إنتاج المعرفة في المجتمع المغربي خلال مرحلة استعماره الاستعمار الفرنسي منه بالأساس، (نظرا لحجمه وقوته مقارنة مع الاسباني)؛ وإنما هو بالتحديد بيان ضعف شروط ومؤسسات إنتاج مثل هذه المعرفة خلال مرحلة الاستقلال، قياسا بما خلفته المرحلة الاستعمارية من ـأبحاث ودراسات وكتابات حول المجتمع المغربي، وإنما ما يوضح الهوة الشاسعة بين مؤسسات رعاية واحتضان البحث والمعرفة في سياق الدولة الاستعمارية بما هي دولة حديثة، وبين نظيراتها – إن كان لها نظير – كما يقول حمداش. كل ذلك في سياق دولة لم تفلح في استكمال مقاومات بنائها كدولة حديثة، ولم تتربع بعد على سيادتها المعرفية، رغم المسافة الزمنية التي قطعتها منذ حصولها على الاستقلال (حوالي 65 سنة)، تلك، السيادة التي يعتبر العلم، ومؤسسات البحث والدراسة، أحد أركانها ومقوماتها، بما في ذلك طبعا العلم الاجتماعي(ص10-11). بناء على كل ما سبق يعتبر عمار حمداش « أننا بحاجة إلى «بناء مزدوج»، وليس فقط إلى «نقد مزدوج»، ويرى أن السير على دربه قد أنجز ما يكفي من الكتابات والدراسات والتحليلات بشأن الإنتاج المعرفي الكولونيالي. بناء مزدوج لمؤسسات البحث والدراسة حول المجتمع المغربي، من جهة، وكذا لخريطة بموضوعات البحث المنصبة على قضايا التنمية انطلاقا من المداخل المعرفية للعلوم الاجتماعية، من جهة أخرى (ص 17). ولبيان طول المسافة المطلوب قطعها، وحجم المجهود المفروض استثماره للتقدم على طريقها، يعمل حمداش بالدرجة الأولى في هذه المساهمة، على إبراز الشروط التي أسهمت في تطوير إنتاج المعرفة بالمجتمع خلال المرحلة الاستعمارية لشمال إفريقيا عامة، وللمغربة خاصة، والتي وجهت التفكير، موضوعات ومناهج، في قضايا المجتمع المغربي خلال تلك الحقبة (ص 17-18).ومن ضمن هذه الشروط يستعرض ويخصص في ورقته لتبيان ما تم ذكره، مجموع المحطات التي أسست لمعرفة منظمة ومهيكلة في ارتباطها بالمؤسسات الاستعمارية، وفي ارتباطها باللحظات الاستعمارية الكبرى التي همت شمال إفريقيا.ومن ضمن هاته الحملات والمحطات التي يحدددها ع. حمداش: حملة نابليون على مصر كلحظة معرفية مؤسسة لتجديد النظر إلى مجتمعات الشرق وشمال إفريقيا. ثم المحطة الجزائرية التي وضعت اللبنات المؤسسية للمعرفة بالمجتمعات الشمال إفريقية، والمكاتب العربية، وسلك المترجمين العسكريين، وأخيرا وليس آخرا محطة «البعثة العلمية» بطنجة وإطلاق مؤسسات خاصة بالبحث والدراسة حول المغرب ( ص 18- 31). ولعل المسار المهني لمؤسس «البعثة العلمية» يكشف ذلك التكامل الذي طبع الأذرع المؤسسية للدولة الفرنسية الرسمية منها وغير الرسمية، ودورها في تكوين الدارسين وتوجيههم الوجهة المتوافقة مع أغراض سياستها الاستعمارية. وقد حدد لهاته البعثة المهام التالية:
وضع الأسس الإدارية للبعثة العلمية بالمغرب،
خلق مكتبة متخصصة في الشأن المغربي،
وتحضير دراسات متخصصة حول المغرب،
وهي جميعها مهام تعكس حسب الباحث الطابع المنظم والمؤسسي لاشتغال مثل هذه الهيئات المعنية بالدراسة والبحث والتوثيق، حيث يلاحظ هنا كيف أن التنصيص على «وضع الأسس الإدارية « للبعثة كان واضحا، وأن خلق مكتبة متخصصة، كان يعكس أهمية الكتاب والمكتبات ومؤسسات التوثيق والأرشيف، والنشر لدى الدولة الفرنسية الحديثة، وهي شروط لازمة لإنتاج الدراسات وتطويرها، ولتيسير عملية إدماج الباحثين وشق مساراتهم الخاصة ضمنها»( ص 31-32). وبالتالي فهذا «يعني وجود برنامج أو خريطة عمل علمي مرتبط بالمصالح الرسمية لدولة الاستعمار، وليس مجرد اهتمامات شخصية للباحثين والدارسين المنتسبين إليها» (ص33). غير أنه إذا ما انتقلنا إلى الحالة المغربية، فالباحث ع. حمداش يسجل بهذا الصدد « أن الطابع الغالب على إنتاج المعرفة السوسيولوجية والأنثروبولوجية يظل عندنا غير مؤسسي، بالمعنى الذي تم التعريف به ضمن هذه المساهمة من خلال استعراض التجربة الفرنسية بشمال إفريقيا، حيث إن الاجتهاد الشخصي لبعض الباحثين والكفاءات، والتزامهم بالقيم الثاوية في صلب هذه المعرفة، هو ما يجعلها متشبثة بالوجود، وهو ما يسمح لنا بالقول إنها سوسيولوجيا أفراد وكفاءات أكثر منها سوسيولوجيا هيئات ومؤسسات» (ص 39-40). وبذلك فإن أفق «البناء المزدوج» الذي ينظر إليه عمار حمداش، إنما يدعو إلى الاشتغال على واجهتين يعتبرهما متلازمتين ومتكاملتين:
الأولى وهي المنطلق والأصل، وتهم سياسة البحث العلمي ببلادنا على كافة المستويات، ابتداء بالتصور أو الاختيار السياسي لموقع البحث العلمي في تدبير الشأن العام، وطبيعة الهياكل والبنيات المؤسسية المطلوب منها الاشتغال بالبحث وإنتاج المعرفة (باعتبار العلوم من أهم الخيرات والثروات في المجتمعات المعاصرة)، وكيفية نشرها وتداولها واستثمارها وتوظيفها؛ وما يتصل بذلك من موارد بشرية مؤهلة، وميزانيات مناسبة.
والثانية تهم رسم خريطة وطنية للبحث العلمي في سائر المجالات، تضع الهيئة المشار إليها محاورها وموضوعاتها الكبرى، وترتب أولوياتها، وتضع برامج عمل لتنفيذها، وتشرف على سيرها وتقييمها وتركيب نتائجها، وتحديد حاجياتها واقتراح الهياكل الملائمة لتحقيق أهدافها.. فتكون بمثابة بوصلة مرشدة لكافة المؤسسات والمراكز ومجموعات البحث والباحثين الأفراد، بما في ذلك الجامعات والمعاهد والمدارس العليا.. خريطة من شأنها تيسير الانخراط في دينامية معرفية متنوعة ومتكاملة الاختصاصات، قادرة على تحقيق التراكم، ومساعدة على الاستجابة للطلب السياسي والمجتمعي العام، كما للطلب القطاعي أو المحلي الخاص؛ ومتفاعلة في نفس الوقت مع اختيارات وانشغالات الهيئات السياسية والمدنية ومختلف الباحثين الأفراد (ص 40).

ادريس منصوري «بول باسكون وروبير مونتاني، الإحالة الغائبة،

لقد ظل بول باسكون حسب ادريس منصوري في أعين المثقفين، نموذج المثقف الملتزم، بحكم مجال اشتغاله ومقاربته الفعالة للواقع الاجتماعي. لقد كان شخصية مركبة، تهتم بالفلاحين أكثر منه بالبروليتاريا، وتحتك بشكل مستمر بدوائر القرار ومكاتب الدراسات واجتماعات الخلايا. لكن بالنسبة لهؤلاء الفلاحين باسكون كان شبيها بذلك الضابط المكلف بالشؤون المحلية، وهي الصورة التي رسخت في المخيلة الجماعية. ضمن هذا السياق، فإن ما يحاول ادريس منصوري إبرازه في هاته المقالة، هو أن هؤلاء الفلاحين لم يكونوا مخطئين تماما، وأنه كانت هناك عدة أشياء تربط باسكون بأحد تابعي هؤلاء الضباط المكلفين بالشؤون المحلية، وهو روبير مونطاني(ص 73). ليس من السهل أن نقول عن باسكون أنه صاحب استنساخ وإحالات دون ذكر مصدر ومرجع أصحابها، لكن ادريس منصوري، يعتبر أن باسكون ليس بمنأى عن فعل ذلك، بل يرى في بول باسكون حضورا آخر بالشاكلة ذاتها لمونطاني. يقول حول هذا الأمر «تختلف السياقات والاختيارات أيضا، إلا أنه عند قراءة حوز مراكش لا يمكن التخلص من الشعور بتسرب «البربر والمخزن»: لا شك أن باسكون يعرف مونطاني كما يعرف أصابعه» (ص 74). ولتبيان ذلك، والبحث عما يربط باسكون بمونطاني، يقترح ادريس منصوري ثلاث ملاحظات يعتبرها كافية لتأكيد هذه المقاربة:
الأولى تهم التعارض بين المخزن/ القبيلة والتي تطبع تفكير بول باسكون، ولا يستطيع التخلي عنها، رغم ما يعلنه. فمن خلال التدوينات الحية لباسكون والتي يكمن فيها جمال تحليله، يمكننا استحضار أعمال مونطاني. يكتب باسكون على لسان منصوري مثلا :» يجب معاينة فعل إعادة ترميم ساقية تم اجتياحها من طرف فيضان مفاجئ أثناء فصل الربيع، لكي نتحسس سرعة نظام الإنذار الجماعي وتلقائية الاستجابة الجماعية وروح المبادرة والتنظيم لمجموعة السقاة» (ينتهي الاقتباس). فعلا، يكمل الباحث: لا يتعلق الأمر بقبائل بل ب «مجموعة من السقاة». كان للقبلية صيت سيء آنذاك. يستمرباسكون حسب (الباحث دائما): « إن تعويض تخصصات جماعية وتقليدية بتأطير إداري ومكتبي يؤدي إلى انخفاض في معدل الجبايات، إن الإدارة هي التي تضبط منسوب مياه السقي ولذلك فإنها تضعف قدرة الاستجابة لدى مجموعة السقاة». داخل ما ذكر يسأل منصوري «ما هي إذن هذه التخصصات الجماعية والتقليدية التي تمنح جميع صلاحياتها لـ «مجموعة السقاة»؟ ألا نقترب من مفهوم «القبيلة»؟ فيبدو للباحث ادريس منصوري أن باسكون يمانع استعمال هذا المصطلح لوصف حالة تستهويه. أما بالنسبة لكل من الإدارة و «التأطير المكتبي»، كان من المفترض استعمال لفظة «المخزن» لأنها هي ما يقابلهما فعليا(ص 79).وبهذا فإن تعارض أشكال التأطير الصارمة والتدخل الذي قام به المخزن، مع أشكال التنظيم الجماعية والتقليدية لا يمر دون استحضار مونطاني، بالنسبة لإدريس منصوري، يكتب هذا الأخير «يمكن بالتأكيد القول بأن هذا التعارض يوجد عند مؤلفين آخرين، لكن الحقيقة أنها تتخذ أجمل أشكالها عند مونطاني التي تبنين وتؤطر تملك أرض الحوز التي يعرفها باسكون جيدا، كلها آتية من عند روبير مونطاني». ويضيف «عند محاولة فحص أطروحات مونطاني جغرافيا، يحاول باسكون وضع حدود لها. إلا أنه لا يستمر في ذلك، لأن تبعيته لمونطاني تقف عقبة أمام التباعد». (ص 80)
لا يحب باسكون استخدام مصطلح «القبيلة»، حسب إدريس منصوري، حالما يواجه الآليات الاجتماعية التي يشار إليها عادة بهذا المصطلح، يلجأ إلى تعبيرات أقل شدة وإلى تمويه لفظي للحديث عنها. هكذا نجده يلجأ إلى استخدام تعبير «مجموع المستعملين» للدلالة على أشكال التضامن القبلي الذي يتم اللجوء إليه لإصلاح الساقية. أيضا يتحدث عن «مجموعات ذات مؤسسات داخلية قوية». في ظل هذه الظروف لا يمكن سوى حجب مونطاني. لأنه كان شخصية مكروهة من قبل الحركة الوطنية، تحت حجة كونه داعية القبيلة والقبلية. عموما بالنسبة لباسكون يسترسل منصوري، «الدولة المركزية» (المخزن) هي نقيض القبلية وعدوها الكامل». وهكذا فإن «القبيلة محكوم عليها بأن تكون مجرد زبون، وهو ما يمكن للسلطة المركزية تحمله لأنها لا تملك الوسائل لطمسها». هذا هو الحال، على سبيل المثال، في أزمات الخلافة: البطريركية النسبية والتي تترك المجال لتنافس الورثة مسؤولة عن انتشار نوع معين من القبلية. لقد ظلت قواعد التقهقر المثالية تخنق صراعات القبائل، لدرجة أصبحت معها حيويتها منغلقة في أمل ميلاد زعيم قبلي طامح للسلطة» (81-82). بناء على كل ما سبق ذكره يخلص ادريس منصوري، إلا أن باسكون لم يعمل سوى على السير على خطى مونطاني.
إذا كان إدريس منصوري ركز في نقده على التطابق الكبير بين أفكار ومنجز روبير مونطاني البربر والمخزن خصوصا، وما أتى به في ما بعد بول باسكون سيما في «حوز مراكش»، وحضور عمل مونطاني بكيفية ضمنية عند بول باسكون، ومن ثم تبيان حدود ومستويات هذا التطابق، فإن محمد زرنين سيذهب في نقده لبول باسكون إلى مستوى آخر غير بعيد عما طرحه منصوري. يهم الأمر الدراسات العقارية، والكيفية التي قارب بها بول باسكون هذا الموضوع.

محمد زرنين»مراجعة نقدية لنقد بول باسكون للدراسات العقارية»

يتوقف الباحث محمد زرنين، في هذه الدراسة، عند نقد باسكون للدراسات العقارية نظرا لأهميته وللآفاق النظرية والمنهجية التي تفتحها مراجعته وتنسيبه. ويقتصر في هذه الدارسة على هذا الجانب من إنتاج باسكون دون الجوانب الأخرى. وإذا كنا يضيف زرنين «نقدر ترابط مكونات مشروع باسكون وتشعبها، فإننا نستحض مراجعتنا النقدية هذه لنقده مع بعض التحفظات النظرية والمنهجية الراجعة إلى هذا التقدير بالذات، وإلى أننا نقدم في هذه الدراسة البناء العام للمراجعة دون الاستغراق في التفاصيل» ( ص 92-93). سيركز وسنركز نحن أيضا مع زرنين في إظهار جانب النقد بالوقوف على جانب واحد كبير ومهم أغفله بول باسكون حينما درس ملكية العقار والعلاقة بالأرض، جانب يرتبط بما هو ثقافي ورمزي، وغير مادي. لقد تبين للباحث محمد زرنين من خلال دراسة تاريخية وسوسيو- أنثروبولوجية للملكية العقارية والعلاقة بالأرض، أن من شأن هذه المقاربة أن تكشف أولا عن تاريخية مساحات الملكية، في توسعها وتقلصها، تجمعها وتشتتها وإخبارها عن استراتيجيات الفاعلين، وثانيا، عن تاريخية الوضع القانوني للملكية في دلالته على التحولات التاريخية والقانونية والاجتماعية، بل حتى النفسية والعقلية للفاعلين، وثالثا عن تاريخية التركيز العقاري وإخباره عن القوى المتحكمة فيه وتجهيزاتها المادية وعدتها الرمزية» ( ص 96- 97). هاته العدة الرمزية والثقافية هي ما يغيبها باسكون حسب زرنين ويتجاوزها نحو التركيز على جوانب أخرى في دراسته. يكتب بهذا الخصوص « في أطروحته حول الحوز، يقلص من مجال الثقافي والمعطى القيمي بشكل كبير. يضيف «نعم يعترف باسكون أن الفصل الأخير من الأطروحة في حاجة إلى إعادة كتابة ولكن المسألة التي تهم لا تتعلق بما سيكتب لو أعيدت كتابة الفصل، بل تتعلق بالوضع النظري لتحليل المجتمع من خلال وعبر قيمه وأنساقه الرمزية كما هي معاشة وممارسة في الخطابات والسلوكات اليومية للفاعلين» (ص 98).
لقد أظهر باسكون حسب زرنين في دراسته هذه الآليات الاقتصادية وتبعاتها الإدارية، لكنه لم يظهرها وهي تحيا وتتصارع في إدراكات وخطابات المتنازعين، ولم يفتح باب الصراع الاجتماعي من حيث هو صراع تصورات ومقولات أيضا. ولهذا السبب بالذات والحالة هاته يعتقد زرنين في محدودية نقد باسكون رغم أهميته، مقابل أهمية تحليل تاريخي وسوسيو- أنثروبولوجي قام به للاستراتيجيات العقارية للفاعلين، باعتبارها رهانات اجتماعية، (وهي أطروحة الباحث لنيل شهادة الدكتوراه). وكذا بإمكانية فهم واستيعاب هذه الرهانات، انطلاقا من تحليل جينيالوجي يسمح بإظهار نظام العلاقات، ويوصلنا إلى القوى والإرادات المتحكمة فيه أو الساعية إلى ذلك، وهو ما يجعلنا يقول زرنين نعطي أهمية لتلك العوامل التي قلص باسكون من أهميتها، وشرط وجاهتها باستيعابها داخل نظرية لأنماط الإنتاج، وهي نفس المنطلقات التي تجعل زرنين أيضا، لا يقف عند حدود التعبير السياسي للفئات المتنافسة حول الأرض ومن أجلها (نقد بودربالة)، بل يتعداه إلى تعبيرهم الثقافي العام عن وجودهم الاجتماعي، وبهذا يعطي زرنين هذا التعبير أهمية منهجية أكيدة لأنه يرتبط بما أسماه «أدبيتهم» (ص 99). قدم في هذه الدراسة زرنين مراجعة نقدية لنقد بول باسكون للدراسات العقارية (والتي لا يمكن جرد كل تفاصيلها). وذلك بعد أن عرضها وقبل نقد باسكون مبدئيا وتحفظ عليه منهجيا، ليظهر الباحث منطلقات تحفظه، مشيرا إلى الإمكانات التحليلية التي تتاح للباحث إذا غير المنظور واعتمد مقاربة تاريخية وسوسيو- أنثروبولوجية للمسألة العقارية دون أن يعني ذلك أن بول باسكون لم يقارب المسألة العقارية مقاربة تاريخية، بل قاربها تاريخيا غير أن مقاربته هاته بالنسبة لزرنين لم تعمق على المستوى السوسيو أنثروبولوجي. كما بين زرنين أن المقاربة التاريخية والسوسيو أنثروبولوجية هي في الواقع مقاربة جينيالوجية بمعنى خاص. يكتب زرنين «صحيح أننا لم نقدم العديد من التفاصيل النظرية والمنهجية التي كانت أساس ما قدم، غير أننا نعتبر ما قدم كافيا من حيث دلالته على محدودية نقد باسكون للدارسات العقارية»( ص 107).

نور الدين الزاهي «الخطيبي وغيلنر، سياقات ومضمرات
النقد المزدوج»

ضمن سياق النقد للخطاب الكولونيالي، النقد الراديكالي والوطني. لم تعد هنالك فوارق بين المؤرخ الوطني عبد الله العروي والماركسي بول باسكون أو الخطيبي. لقد طرحت النظرية التجزيئية أمام الوطنيين القبلية بنظامها الداخلي المتوازن والمستقل عن الدولة المركزية، مثلما غيبت أمام الماركسيين مفهوم نمط الإنتاج والصراع الاجتماعي والطبقات. وبسبب ذلك ستحدث، حسب نور الدين الزاهي، خللا كبيرا في نواة الخطاب الوطني، المؤسسة على أطروحة العمق التاريخي للدولة المغربية، وكذا السيادة السياسية والروحية للسلطان على كامل البلد، مثلما ستجرد الخطاب الماركسي من أسلحته الكبرى، المؤسسة على التاريخ الاقتصادي في قراءة وتفسير الظواهر الاجتماعية الكبرى بالمغرب مابعد كولونيالي ( ص 159). ولهاته الأسباب كلها وضدا على التجزيئية، سيفكر رواد الخطاب الماركسي هاته المرة بمنطق الدولة -المخزن، وسيعلنون، مثلهم في ذلك مثل رواد الخطاب الوطني، نهاية القبيلة ونهاية الانقسام ونهاية السيبة… وميلاد الدولة والأمة والطبقات والمؤسسات. ذاك هو السياق النظري العام الذي سيؤطر نقد الخطيبي للمنظومة التجزيئية، عموما وإرنست غيلنر خصوصا يقول الزاهي. سياق وسم بالرفض المسبق والكلي لدى كل أهله، وكذا بالحيرة الكاملة. هنالك رفض للنظرية ووصمها بالعجز الكامل، وفي الآن نفسه إقرار بحيويتها وديناميتها في البنيات الاجتماعية والسياسية المغربية( ص 161). ضمن هذا السياق وارتباطا بما تمت إثارته، سيقصد الباحث ن. الزاهي، عن عمد ووعي إثارة العلاقة بين الخطيبي وغيلنر لأسباب عدة. أولها يبين الزاهي كي لا يسقط في فخ التعميم حجته في ذلك كون إحدى أسس مفارقات نقد الرواد للتجزيئية هي عدم الوعي بأن الأمر يتعلق بتجزيئيات وليس تجزيئية. والخلط بين الأمرين بحجة وجود نموذج نظري مشترك، شكل أس نقط الضعف الكبرى التي طبعت انتقاداتهم بالحيرة والارتباك. ثانيها يكمل الباحث «كون ارنست غيلنر هو من استهدف بشكل كلي بالنقد العنيف والقاسي، على عكس التجزيئيات الأخرى، من مثل تجزيئية إ. بريتشارد أو دافيد هارت أو جاموس أو واتربوري… يطرح الأمر أكثر من سؤال : لم تجزيئية غيلنر؟ وما الذي ميزها عن التجزيئيات الأخرى؟ يتساءل نور الدين الزاهي. ثم ثالث الأسباب كون الانتقادات الموجهة لإرنست غيلنر لم تلامس أطروحته الأساسية حول «صلحاء الأطلس» بل الاكتفاء حاصلا بإحدى دراساته التي ترجمت من الإنجليزية إلى الفرنسية وتعرف عليها المغاربة تحت عنوان: «comment devenir marabout». وذاك ما حجب أطروحته الأساسية والمركزية «صلحاء الأطلس». رابع الأسباب كون إرنست غيلنر سيشكل صدمة نظرية منهجية لكل الرواد، كونه ليس من مستهلكي نظرية فيبر أو وضعية دوركايم، أو نظرية ماركس. فهو يشغل وضعا بينيا بين تحليل الكل بالكل، وتحليل الكل بالفرد، وذاك ما زاد من صعوبة إدراكه وانتقاده (ص 162).
فبقدر ما يعتبر غيلنر أن النموذج الخلدوني لم يفقد صلاحيته التفسيرية إلى حدود القرن العشرين، فإن ما ظل يهمه ليس هو فكرة العصبية في ذاتها، بل كون ابن خلدون قد أرسى حقيقة تاريخية مفادها كون القرية (القبيلة) هي من ظلت تهب نظام الدولة للمدن، وليس العكس. بهذا المعنى يقول نور الدين الزاهي «ليست القبيلة ضد الدولة ولكنها تشكل أسها وبذرتها، وإذا ما كان الأمر كذلك، لن تكون هنالك دولة خالدة. ذاك ما ظل يخيف منتقدي تجزيئية غيلنر وهم يفكرون بمنطق الدولة والأمة وعمقها التاريخي وكذا ديمومتها الأبدية، وعوض أن يتسهدفوها في مؤدياتها انغلقوا في مجادلة التجزيء: هل هو بالنصف أم بربع الأرباع أم خمس الأخماس» (ص 167). ولهاته الأسباب والحالة هاته سيتسم نقد الخطيبي لغيلنر بالنموذج الشكلاني كما يصفه بذلك ن. الزاهي. منطلق هذا الحكم يرجع حسب نفس الباحث لكون الخطيبي، تجاهل عن قصد المعطيات، أو ما أسماه غيلنر بالتجزيئية العملية. ذاك ما جعل على امتداد الستينات والسبعينات من القرن الماضي كل اقتراب من موضوعة القبيلة، سواء في تحليل البنيات الاجتماعية أو السياسية، يواجه بوصم التجزيئية (ص 167). وبهذا فنقد الخطيبي لغيلنر، لم يخرج عن النقد العام الهش الذي تعرض له هذا الأخير، فمعرفته بغيلنر تمت بوساطة جان فافري مثل الكثيرين، وهو ما أعاق المعرفة المباشرة بأطروحة غيلنر حول صلحاء الأطلس، لقد انتقد غيلنر غير ما مرة الصلاحية الكاملة للنموذج التجزيئي في انطباقه على المغرب، وهو ما جعله ينحت مفهوم «الهامشية» كي يميز موضوعه عن سابقيه.
يختم نور الدين الزاهي ورقته هاته التي استعرضنا فيها أهم الأفكار التي وضعها كأساس لنقد غيلنر بقوله الآتي: «لقد حرم النقد الأيديولوجي للتجزيئية المجال العلمي الاجتماعي من خوض نقاشات علمية هادئة حول أسئلة كثيرة ( موضوعها مرتبط بما أثاره غيلنر حول القبيلة)، مثلما حرم نفس المجال من ترسيخ استقلاليته ونضجه وشحذ فعله العلمي داخل الحقل الجامعي، ما مؤداه ترسيخ النقد العلمي لدى الباحثين الشباب الذين، الآن وفي جل أبحاثهم الجامعية، لا يعملون سوى على اجترار هاته الانتقادات دون أي عناء للاطلاع على أدوارها ومصادرها، وتشكيل رأي نقدي مستقل عنها» ( ص 168-169).

هوامش

1 علم الاجتماع بالمغرب مراجعات نقدية، تنسيق ذ. نور الدين الزاهي، المصباحية مجلة محكمة تصدرها كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس – فاس، لارمطان للمغرب الكبير، العدد: 15، 2021.


الكاتب : محمد أمين بشيبة

  

بتاريخ : 20/11/2021