مكاشفات الذات وإضاءاتها النفسية : في المجموعة الزجلية «مراية الروح»

اتخذ الزجال إدريس الزاوي من سَفره الزجلي الأول «مراية الروح» محطة للبوح والكشف عن التياعات الذات، وجعل منه مرآة صقيلة تنعكس عليها الذات الشاعرة وتتعرى على صفحتها بعيدا عن كل تمويه أو مراوغة غير ما تقتضيه بنية الخطاب الشعري من خصائص فنية. فقد أبت الذات إلا أن تضيء نفسها بنفسها وأن تتقاسم مع القارئ قلقها الذي لن يكون بالضرورة حالة خاصة أو سمة معزولة، فمهما بدا عليه من خصوصية فهو مستمد في النهاية من ذات جمعية. كما أن اللجوء إلى البوح والمكاشفة ليس غاية في حد ذاته بل هو إدانة للآخر سواء أكان فردا أم جماعة، هذا الآخر الذي لولاه لما تلبست الذات بكل هذه الأوزار التي لم يجد الشاعر من سبيل إلى التخلص منها غير طريق الإبداع. فنصوص المجموعة كاشفة للذات أولا وعبرها للحياة وما تعج به من تناقضات في مختلف مجالاتها، وهذا ما أكده الفيلسوف الألماني هيدغر حين اعتبر الذات جزءا لا يتجزأ من هذا العالم وهي محاطة داخله بملابسات عديدة يسعى الانسان إلى الكشف عنها1. واختيار هذه الذات السفور وطرح الأقنعة في تواصلها مع المتلقي، لا يعني سهولة المأخذ وسطحية المعنى، لأننا لسنا أمام كلام عادي وإنما أمام نص شعري له مقوماته وبناؤه الخاص بالرغم من ارتكازه على العامية آلية للكتابة، فعاميته لا تستسلم لليومي والمبتذل اللذين يهويان بالنص إلى درجة الاسفاف والضحالة، الشيء الذي يدعو إلى الحفر عميقا في هذه النصوص وتفكيك بنيتها، وذلك ما سنتولاه محاولين محاورتها انطلاقا من التيمات والبنى التي تحكمها، فاخترنا في المحور الأول أن نميط اللثام عن آلام الذات والتياعاتها مضمونيا، وفي الجانب الثاني سنسعى إلى تقويم هذا المضمون نفسه انطلاقا من دراسة لغوية معجمية تتيح لنا في الأخير تأكيد هذا التكامل بين الشكل والمضمون أو نفيه.

آلام الذات والتياعاتها:

استهل الزجال عالمه الزجلي باعتراف جعل منه بوابة يمكن أن ينفذ منها كل طارق. أبرز فيه ما سيأتيه لاحقا في نصوصه الشعرية، ووضح من خلاله للمتلقي أسباب اختياره لهذه المكاشفة وسلكه سبيل الفضح والتعرية، معتبرا أن الأمر طبيعي ولا يستدعي الكتمان مادامت هذه الآلام واقعا يحيا الشاعر تفاصيله، نتجت عن نار تعتمل في الصدر، وحرقة تأكل حشاشته. وليس من سمع أو رأى كمن عاش التجربة واصطلى بسعيرها. يقول في هذا الاعتراف: «إيلا كانت الكية ف الڤلب زانده/ ع لوجه يبان دخانها/ لوذن حاضره/ والعين ما هي راڤده/ واش الشاعله فيه/ بحال اللي يسخن عليها» ص: 15. والشاعر إذ يأتي بهذا التعليل يتوقى كل ما يمكن أن يجره عليه هذا الشفوف من لوم وعتاب، أو ما يترتب عنه من تأويل وسوء فهم. لذلك و درءا لأي تجديف أو إنحاء، وإمعانا في التوضيح نجده يتوسل إلى قارئه المفترض بأن يصيخ إليه السمع، ويمعن في قوله النظر والفكر، لعله يلتمس له الأعذار في ما ذهب إليه. يقول في هذا الصدد: «اعطيني وذنك، استلغى لولهتي/ عفاك» ص: 16. ليشرع بعد ذلك في الإفصاح عن مكنوناته الداخلية، فلا تُسمع إلا زفرات نفس فاض بها الأسى «آ آ آ آه على أيام مشت م لعمر/ آح من وقات جات/ ف ذاتي تنجر» ص: 24، ولا تُستشعر إلا ذات أثخنتها الجراح، وأضناها التفكير في ما حولها.
إن الشاعر ليتأسف على ما آل إليه حالنا في مجال العلاقات الاجتماعية بخاصة، فقد أفلت شمس الحق، وتوسعت رقعة الظلم، وولى الوفاء، وساد الغدر وحب الذات كما في قوله: «آش يعجب الڤلب/ فيما يشوف/ بين الكسوف والخسوف/ شمس الحق منتوفه/ ب نبال لغدر مقدوفه» ص: 26. كما يتأسف على ما انصرم منه من عمر في سبيل البحث عن بارقة أمل في الحياة ولحظة نور تركن إليها النفس وتسعد بها، غير أنه لم يجد إلا ما يؤجج النار في دواخله ويزيدها توقدا، فالموت يحصد الانسان يوميا ويعطل روحه، فلم يُبق منه إلا جسدا منخورا يعدم الحركة والنشاط. الأمر الذي أحال الشاعر إلى بركان ثائر وموج هادر وهو يبحث عن الخلاص الذي لن يكون إلا باستعادة الانسان لحياته يقول: « من صغري لكبري/ وأنا نلهث ونجري/ مسكون بريح الحال/ ك حي بن يقضان/ مجيح…مجلي/ ف خريطة الصمت والتيهان/ الشاهدة على موت الانسان» ص: 40 إلى أن يقول: «تعيش لي يا ڤلبي/ ونعيش بك إنسان» ص: 43.
ولكي تكتمل صورة الذات الشاعرة المطوقة بالحزن والأسى، يرصد لنا الشاعر كل الأجواء المحيطة بها، بما في ذلك محيطها المحلي الذي شاء القدر أن يحضنها ويشهد تفاصيل حياتها لحظة بلحظة، فقد ثقل على الشاعر أن يرى مسقط رأسه مدينة تيفلت الذي منحه كل الدفء يرزح تحت وطأة المعاناة، ويغرق في يم من المآسي. فما كان عليه إلا أن يعمد إلى تصويرها والكشف عن معاناتها التي كان لها تأثير مباشر على الذات، وكيف لا وهي التي عايشت أطوارها لحظة بلحظة؟ ويأتي في مقدمة هذه المعاناة التهميش والاهمال الذي طال المدينة . فبالرغم من عطاءاتها وخيراتها إلا أنها لم تأخذ بالقدر الذي أعطت، فعوملت معاملة البقرة الحلوب التي ما إن يجف ضرعها حتى يطالها الاهمال والنسيان كما يصفها في هذا المقطع: «قلبك فمعطاه سخي/ سايل شلال/ يا ما فركْتِ/ وعيشتِ/سبع خضاري/ نعناع الرحابي/ قمح الفدان/ من ضرع السحابة/ على ناسك حلابة/ تساس حليبك/ ف المڤعور/اداوك آخيتي/ وشڤوا بك الرڤبة/ خلاوا غ لعجاج/ اعمى ليَّ عينيا» ص: 81/ 82. ولم يتوقف الشاعر عند حدود نقل هذه الصورة القاتمة لمدينة تهارشتها الذئاب والثعالب -على حد تعبيره- وبيعت في سوق النخاسة، وإنما سعى إلى تصحيح هذه الصورة وإحلال المدينة المكانة اللائقة بها، لأن تعافي الذات الشاعرة رهين بتعافيها ولن يتم إلا بين أحضانها. يقول: «ناوي ف احضانك نطفي عطش السؤال/ يتعافى هذ القلب المضرور» ص: 103
فالشاعر إذن لا يرضخ للأمر الواقع، ولا يركن لسلبياته، فقد سعى إلى تجاوزه بكل ما أوتي من حكمة ونباهة، فكانت البداية بضبط الذات على إيقاعات العقل وإخضاعها لحدوده حتى لا تنساق للغواية ولا يجرفها بهرج الحياة الفتان. وقد خلق هذا الأمر نوعا من الصراع الداخلي لديه، طرفاه رغبات القلب وميولاته، وحدود العقل وضوابطه وفقا لشروط المرحلة، عمل على تجاوزه بتأجيل الرغبات وذلك من خلال خطاب استعطافي داخلي توجه به إلى قلبه، يقول فيه: «وياك آ ڤلبي وياك/ لا يغويك السراب/ لا يغرك زواق الفتانة/ ونسيح أنا وراك» ص: 35.
ولم ينتهج الشاعر هذا النهج في تأجيل رغبات قلبه المشروعة إلا وهو على يقين تام أن دوام الحال من المحال، وأن الليل مهما ادلهم سينجلي بالرغم من تغلغله في حنايا ضلوعنا. فالمسألة لا تتجاوز كونها مسألة وقت شبيهة بأيام العدة حسب تعبيره سرعان ما ستنقضي. فنغمة التفاؤل واضحة في المجموعة الزجلية، وتزداد وضوحا في قصيدة «بشار الخير» ص: 45 التي احتلت مساحة واسعة منها. فقد تسلح الشاعر هذه المرة بالقرطاس والقلم في دحر الظلام المخيم على الأنفس واستعان بنور العقل وهديه آليا على نفسه أن ينتصر على الظلام أو يهلك دونه. يقول: «نشد الليل/ وجع في/ وجع فيه/ نقطع سرتو ونسميه/ ليل شبَكُونِي/ نجبد له وذنيه/ نسمع له تنخسيس وجداني» ص: 46. فقد اختار الشاعر طريق الكتابة وهولا يملك غيرها في الوصول إلى لحظة النور، واهتدى بمفعولها وسحرها في تصوير المزيد من جراحات الذات وندوبها، فهي الكفيلة بأن تضمن له عمرا جديدا حتى وإن كانت قد وظفت لغير ذلك من قبل آخرين، وسخرت لأمور عمقت آلام الذات وزادت من انفضاحها. فقد تم تحريف الحقائق ونشر الأكاذيب والترهات والخرافات، فانطمس بذلك نور الكتابة، وبدل أن تنشر النور وتزيح الظلام أسهمت في تكريسه. ولهذا نجد الشاعر يعذل الورقة التي استباحت جسدها وسلمت عذريتها لكل من يطلبها، ويدعو في المقابل الأقلام الجادة إلى أن يخرجوا عن صمتهم ويصدعوا بالحق إعلاء لكلمته من جهة، وقطعا للطريق أمام نافثي السم من جهة ثانية.
إن الشاعر ليدين الصمت ويعتبره أمرا سلبيا قد يوصل إلى ما لا يحمد عقباه، وبذلك يشبهه ببحر ميت «السكات بحر ميت» ص: 60. غير أن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل الكتابة تسعف دائما صاحبها، وتنقاد له كلما أتاها؟ إن ما تشهده الحياة من تناقضات وما يعتورها من آلام، بقدر ما تكون باعثا على الكتابة في بعض الأوقات، تقف عائقا في أوقات أخرى فتنعقد ألسنة مقترفيها، والشاعر واحد من هذا الصنف الذين أصابهم الخرس من هول المآسي وتعثرت أقلامهم في احتوائها و التعبير عنها، فأصبح الليل الذي كان زمنا للإبداع ومعينا عليه، فضاء للفوضى الاجتماعية والأخلاقية. يقول: «ف ليل الفوضى يا الورقة غاب التاويل/ حايحة هنا… حايحة لهيه/ زڤية غزال دارتها الدياب وسيطة/ لا تسال على اخبارها ف الصباح/ يا بوط… يا عين… يا ليل/ سلالة لمهابيل» ص: 69
هكذا ظل الشاعر في هذا السفر الزجلي يزيح الحجب ويطوح بالأقنعة حتى بدت الذات شفافة لماحة، مبديا قلقا ممضا -من بداية المجموعة حتى نهايتها- لما اعتراها من قروح وندوب، ممتطيا في ذلك صهوة السؤال. فقد بات الشك ينهش روحه ويخترم قواه، وما زال يشك ويمعن في الشك حتى انتهى إلى ذاته، فكان السؤال الوجودي «شكون أنا/ أنا شكون» الذي شكل لا زمة في قصيدة «مراية الروح» ص: 14 التي اقتبست المجموعة عنوانها.

المعجم اللغوي:
لا يمكن الحديث عن اللغة في النص الشعري دون استحضار رأي شيخ النقاد أبي عثمان عمر بن بحر الجاحظ الذي قصر الشعرية على اللفظ دون المعنى، لكون المعاني مطروحة في الطريق يعرفها البدوي والقروي. وتخير الألفاظ هذا هو ما أطلق عليه المحدثون البنية الخارجية أو الخطاب الخارجي للنص في مقابل البنية الداخلية أو المضمون، ويقصدون بها النظام اللساني المعتمد من قبل الشاعر والمتمثل في الألفاظ والعبارات والجمل والعلاقات في ما بينها وما تحمله من معان وقيم2. وسنتخذ هذه البنية بوابة نعبر من خلالها إلى المجموعة الزجلية في هذا المحور الثاني من القراءة، ونتفحص خطابها اللغوي ومستواه الفني والجمالي الذي بلغه في الكشف من جهته عن التياعات الذات الشاعرة.
فمن المؤكد أن الشاعر لم يأت على المستوى اللغوي المعجمي بفتح مبين، والألفاظ والعبارات التي وظفها ليست ملكا له وحده. فقد اعتمد المتداول واليومي منها الذي لا يعزب عن معارف المتلقي العادي، فما بالك بالمهتم بالخطاب الشعري، ولكن الذي لا شك فيه هو أن الشاعر ألبسها لبوسا شعريا فانتشلها من قارعة الرصيف وارتقى بها إلى مرتبة الشعرية التي أبانت عن إبداعيته وتمكنه من صنعته. ولنا في النصوص الشعرية ما يكفي للتوضيح ويغني عن الاستدلال، فكلمات وعبارات من قبيل: عفاك/ سوق راسي/ قشور/ حسي مسي/ الشكلي والعكلي/ الڤدرة/ الكسكاس/ نصرط/ نعكز/ مقجوج …هي كلمات تنتمي إلى درجة الصفر في اللغة، يعرفها السوقة والعوام وهي وسيلة تواصلهم اليومي غير أن الشاعر نفخ فيها من الجدة الدلالية ما جعلها تمرق من إطارها المعجمي الميت إلى إطارها الشعري النابض بالحركة والجمال والحياة3، وذلك من خلال وضعها داخل بنى تركيبية ومجاورتها لكلمات وعبارات جردتها من معناها المتداول، ويمكن أن نسوق مثالا لذلك ب لفظ «نصرط» الذي يعني الابتلاع دون مضغ أو الأكل بنهم، وهما معا معنيان يشمئز منهما الذوق قبل النفس. وقد استعمل هذا اللفظ داخل وحدتين: «نصرط لوقات بلابنة» ص: 33 و»صرط الحكرة وعاش» ص: 59. فمجاورته «للوقت» في الوحدة الأولى و»الحكرة» في الوحدة الثانية نقله من معناه السلبي إلى معنى إيجابي فأصبح مرادفا للتحدي الذي يعتبر أحد أوجه معاناة الذات الشاعرة التي لا ترضخ ولا تستسلم. فلكي تستمر الحياة كان لا بد للشاعر أن يستمرئ كل الأحزان ويتحمل كل المعاناة بما في ذلك عامل الزمن وضغوطاته، وسلوكات البشر السيئة. والشيء نفسه نلفيه في لفظ «نعكز» الذي يفيد الاستناد إلى عكاز أو عصا من أجل المساعدة على المشي، فحين وضعه الشاعر داخل هذه البنية: «العمده عليك آعقلي/ ف الشده تنفعني/ نعكز عليك شق بي هذ الليل» ص: 49 فصله عن لوازمه من عكاز وعصا وربطه بالعقل والعلم والنور باعتبارها وسائل لدحر الظلام، ففي خضم المعاناة والأوصاب التي تلاطمت على الشاعر لم يجد من دليل أو سند غير العقل المفكر والمبدع الذي يخرجه من الظلمات إلى النور. وهكذا نجد أن اللفظ العامي من خلال مجاورته لألفاظ أخرى داخل الوحدة اللغوية أو السطر الشعري كما في المثال الأول أو داخل بنية تتضمن عدة وحدات كما في المثال الثاني، يرتقي إلى مستوى الشعرية، مما يدفعنا إلى التأكيد «أن اللغة العامية في الشعر تتباعد وتتفارق عن اللغة العامية العادية في الخطاب اليومي»4.
وما ميلنا إلى تتبع بنية الخطاب اللغوي في هذه المجموعة إلا لكونه يزيد هذه المرآة التي تنعكس عليها روح الشاعر صقلا، ويمنح الذات مساحة أوفر للإبانة والإفصاح عن دواخلها المتقدة، لأن اللغة في نهاية المطاف ليست إلا «تجل من تجليات روح الشاعر»5. كما أن النتائج التي يسفر عنها قد تكون إما تأكيدا أو نفيا لما جاء في الدراسة المضمونية لكونه يتقيد بقيود النص ويتجرد من كل ذاتية يمكن أن تستدعيها غواية القصيدة.
وبالنظر إلى الألفاظ والعبارات المعتمدة، تتضح جليا هيمنة معجم المعاناة والأسى والحزن وتشكيله قطب الرحى داخل المجموعة. فمن أول نص إلى آخر واحد فيها يقرأ المتصفح: الكية/ زاندة/ الشاعلة فيه/ مسجون/ طحت نتلاوح/ جراح الروح/ الترقاع/ آش نسبق/ آش نتلي/ الشفر طاب/ عييت وطبت بالتسوال/ نبال لغدر مقذوفة/ مزود الضر ثقال/ حريق/ مجروح…وهلم جرا. وباستحضار سياقات هذا الألفاظ وبناها التركيبية يتضح أنها مرتبطة بالذات الشاعرة ومنسوبة إليها كما في قوله: «شربني هوس الحال/ سقاني تخت كاسو/ زند نار اهواسي» ص: 27، وقوله: «من خواض الحملات/ وتراديف الضربات/ شربت» ص: 78، الأمر الذي يرفع درجة المعاناة ويزيد من حدتها ويؤكد معايشة الذات الشاعرة للأحداث، فقد كانت إحدى الشخصيات الفاعلة والمنفعلة بها على امتداد حياتها، وبذلك فهي لم تلجأ إلى تصوير حالات عابرة أو منعزلة بعيدة عنها، وإنما هي بصدد التعبير عما ضاقت به النفس واكتظ به القلب واهتاض له الجسد، إنها لحظات بوح متوهجة بالصدق التام، والصدق هنا لا علاقة له بالجانب الخلقي والقيمي، وإنما هو صدق فني يتخذ فيه الكشف عن الذات أسمى تجلياته6.
وتتفرع عن هذه الحقل المعجمي الرئيس دوائر دلالية ومعجمية خمس، هي: الروح والجسد والزمن والطبيعة والكتابة
ا- دائرة الروح:
لن نستعمل الروح هنا بمفهومها الفلسفي أو الديني الذي عرف جدلا واسعا، بل نأخذها بمفهومها العامي المقابل للجسد أو «الكسدة» والمتجسد في الادراك والاحساس والشعور والوعي، وهو مفهوم وافق في بعض جزئياته تعريف بعض الفلاسفة كأفلاطون الذي جعل الروح تتكون من ثلاثة أجزاء وهي العقل والنفس والرغبة. ومن النماذج المعتمدة في المجموعة الزجلية نذكر على سبيل التمثيل: في قفص ذاتي مسجون (ص: 17)/ ياما جراح الروح دمات (17)/ نوارة الروح تتذبال (18)/ الروح يمكن تشهق (21)/ الخاطر تيضياق (21)/ الدفا ينغل ف الذات (32)/ في القلب شحال من مسمار(21)…ومن خلال تتبعنا لهذه الدائرة يظهر أن هذه الروح إما معذبة مسجونة أثخنتها الجراح وأصابها الذبول والعطش تبحث لنفسها عن مذقة ماء في صحراء الأسى، وإما تائهة في براري الأحزان تبحث عن مستقر لها، وإما ثائرة تتأجج النار داخلها. وفي كل الأحوال فهي تعاني، وقد احتلت هذه الدائرة المساحة الأكبر من المجموعة مما يعني أنها بؤرة القصيدة ومرتكز الشاعر، إذ لا قيمة للجسد بدونها.
ب- دائرة الجسد:
نمثل لها بالوحدات التالية: لوذن حاضره/ العين ما هي راقده (15)/ ف اسواق راسي دالع دايع (16)/ الفم شبع هدره/ تقرقيب الناب طيح الضراس/ اللسان عاب/ ف لبصر جمره (19)/ السلسول سكه/ لعروق طرقان (20)…ولا يبتعد الجسد كثيرا عن الروح حضورا، فهما يسيران جنبا إلى جنب، وهذا أمر طبيعي تؤكده إلى جانب هذه الدراسة المعجمية طبيعة خلقة الانسان، إذ لا يمكن للروح أن توجد بمعزل عن الجسد. ولذلك فوضعه لا يختلف في المجموعة عن وضعها، فقد أنهكته هو الآخر المآسي وأسقمته العلل حتى خارت قواه، ومادام غير معزول عن الروح فإن كل معاناتها تنطبع عليه كما يتضح من خلال بعض الوحدات اللغوية التي جمعت بينهما، يقول الشاعر: «ياك لوجه مراية الروح» ص: 21، وقد تنقلب الآية فتتضايق الروح لحالة الجسد: «ما حد النظرة تتحرار/ الخاطر تيضياق» ص: 21. وبهذه العلاقة التي تجمع بين التأثير والتأثر نعود لنؤكد إبداعية العنوان «مراية الروح» ونعطي المشروعية لتأويل الجزء المحذوف الذي لم يكن غير الجسد، فيصبح «الجسد مراية الروح»
ج- دائرة الزمن:
إن الذات الشاعرة لا يمكن أن توجد وتحيا إلا داخل الزمان، وبذلك فإن معاناتها ستكون أشد ارتباطا به، وهذا ما لوحظ من خلال توظيفه من قبل الشاعر، فهو إما مساحة لاستفحال الوضع وعربدة المسيئين للحياة والإنسان، وإما حلبة لمواجهة منغصات الحياة. وما بين الاستفحال والمواجهة تستمر المعاناة. وهذه بعض النماذج من استعماله: فقشور ليام راتع (17)/ را العيب فينا/ زايد يكبر عام على عام (30)/ زمان لجفا (33)/ الليل وما طال/ زاند شعال (36)/ من صغري لكبري/ وأنا نلهث ونجري (40)
د- دائرة الطبيعة:
يقتضي عرض معاناة الذات وتصويرها بشكل دقيق كما عاهد الشاعر نفسه نوعا من التجسيد. وقد وجد في عناصر الطبيعة ما يساعده على إضاءتها، فالذات تذبل كما يذبل الزهر، وتزند كما يزند الجمر، وتنتشر النار في حناياها كما تنتشر في الهشيم، ويتقاذفها موج الحياة كما يحدث تماما في البحر سواء بسواء. وحرصا على التشخيص لجأ الشاعر إلى هذا المد الطبيعي الذي انداح في كل قصائد المجموعة كما يظهر من هذه النماذج: لسان النار ف الدواخل طوال (19)/ نوارة الروح تتذبال (20)/ تاره تزفزف بي الريح/ف بر التيهان/ تاره تلعب بي الموجه/ ف بحر السؤال (35)/موجه تلوحني لموجه (48)/ على نار الشوق نبات (50)
ه- دائرة الكتابة:
تحضر الكتابة في المجموعة باعتبارها وسيلة لترياق الذات وملاذا لانتشالها من الوضع الذي تعيشه أو على الأقل التخفيف منه. وذلك عن طريق البوح وتفريغ كل الشحنات السلبية التي تحملها ومن أمثلة هذا المعجم: نفتش على حرف عزري/ تكون له الورقه خليله (28)/ ما احلى النزاهه ف عراصي لنظام/ رست الورقة/ لِي قالت/ على بياضي بوح ب السر برد الكية (52)/ من أهل الحكمة/ ذوق المعنى تروى لكلام (53)/ يا الورقة/ طاوعيني خلاص (56)…فقد اتخذ الشعر من الابداع موعدا يؤول إليه كلما ضاقت به السبل لكونها خزانا للحكمة وسبيلا لتجاوز كل المطبات، وبذلك فإن هذه الدائرة لا تنأى عن الدوائر الأخرى ولا تعارضها بل هي على تماس معها.
إن تتبع المعجم اللغوي المعتمد في المجموعة بكل تفريعاته ودوائره الخمس السابقة يؤلف بنية واحدة متصلة الأجزاء يمكن التمثيل لها بقصيدة «عكاز الطريق» التي جمعت بين هذه الدوائر جميعها في بنية غير منفصمة العرى نأخذ منها قول الشاعر: «نتسنى طلوع النجمه/ السابقه النهار السايڤه الليل/ يا قوتة تبري ف العين» ص: 50، الذي جمع بين معجم الزمن والطبيعة والجسد في بنية واحدة حولت المختلف إلى مؤتلف وحررت الألفاظ والعبارات من دلالاتها التقليدية المعتمدة عند العامة لتصير لغة شعرية طافحة بالجمال، أغنت دلالاتها تلك المقاطع الأمازيغية التي تآلفت مع الخطاب العامي حتى لكأنك لا تحس وأنت تنتقل من خطاب إلى آخر، لأن ورودها لم يكن تحلية ولا ضربا من التجريب بقدر ما عبر هذا الانتقال عن أزمة ذاتية، وكأني بالشاعر يطلق صرخاته الأخيرة وبخطاب مغاير علها تلقى آذانا صاغية بعد أن ووجهت صرخاته السابقة بالصمم واللامبالاة.
بناء على ما سبق، يكون هذا المعجم اللغوي الموظف من قبل الشاعر قد زكى المضمون وأكده، لا على مستوى الموضوع المطروق فحسب، وإنما على مستوى تسليط الضوء عليه والكشف عن تفاصيله حتى لكأن الذات الشاعرة تنض ثيابها وتعرض آلامها، معبرة عن سخطها على الواقع، في وقت لا يتم فيه الاهتمام إلا بالمفاتن والتفنن في عرضها.

هوامش
1 – نقلا عن: حاجة الانسان إلى تمثل للعالم- عبد الرحمان التليلي- مجلة عالم الفكر- مج 40- س 2012- المجلس الوطني للثقافة والفنون- الكويت- ص: 28
2 – بنية الخطاب الشعري: دراسة تشريحية لقصيدة أشجان يمانية- عبد المالك مرتاض- دار الحداثة للطباعة والنشر- بيروت-ط1-1986- ص: 10- 11
3 – نفسه- ص: 37
4 – ماجد يوسف: على العامية عدم تقليد الفصحى- حاوره: عمر شهريار- مجلة الشعر- ع 146- 2012- تصدر عن اتحاد الاذاعة والتلفزيون- مصر- ص: 104
5 – نفسه- ص: 102
6 – شخص جدير بالكراهية».. ومأساة الرغبة المستحيلة- ابراهيم محمد حمزة- مجلة الشعر- مرجع سابق- ص: 63


الكاتب : محمد رحــــــــو

  

بتاريخ : 10/10/2020

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *