نبضات : حصـة الإنشـاء

 

يا لحصة الإنشاء ! يا لحصة الهمز واللمز والغمز والسخرية والاستهزاء والضحك! ويا لحصة المحنة والامتحان والخض والفض، والكشف والفضح أمام الأنداد والأقران، وقدام الزميلات!. أقلتَ الزميلات؟ تلك هي المسألة، وذلك هو مربط الفرس، وأم المهازل والزلازل والنكايات، والخجل الأحمر القاني المتدفق على الوُجْنات، يتجمع فوق الجبين اللعين، وينزلق إلى أرنبة الأنف، ثم يتدحرج قطرات وحُبَيْبَات على الطاولات. وإذا كان المثل يقول: عند الامتحان يعز الأمر أو يهان، فحصة الإنشاء مجلى وتطبيق حي للمثل، وتجسيد ما بعده تجسيد للإعزاز أو الإذلال، إذ هي ميقات يوم معلوم في الأسبوع. يوم منتظر يشيب له الولدان، ومضمار تنافس وتنابز، وعلو كعب أو هبوط، ومكر وصفاقة، وتصعير خد، أو انكماش وانعزال وقلة يد وحيلة.
في جرادة الموشومة في الذاكرة، وفي الوجدان والمسام، مدينة الفحم والوحم والسخم والدم، والعيش الكفاف: (الخبز الحافي، والشاي البارد أو الدافي)؛ وتحت سمائها المعدنية الصفراء والرمادية ـ الكابية، وبين جوانحها المغبرة، وحواريها المتربة، وأراجيحها –الأفنان، وأعشاشها – الطوب، وسقوفها – القرميد، وصباحاتها الضبابية الباردة، ومساءاتها الطويلة المثلوجة اللاسعة، حيث الأفران والمداخل والمدافيء تُزَمْجِر بحطب وخشب، وعيدان، وفحم حجري متواثب الاشتعال. في جرادة هذه: أيام الطلب والتلمذة والشيطنة والإبليسية، والشقاوة التي بلا ضفاف، كانت حصة الإنشاء سيدة الحصص جميعا. حتى حصص الرياضيات، والفيزياء والتاريخ والجغرافيا عوض الاجتماعيات: (أوثر تسمية المادة هكذا، لا الاجتماعيات لأنها تسمية ملتبسة)، والفلسفة في مرحلة لاحقة، لم تكن تحظى بمثل الاهتمام و»الغرام» والتوجس والخوف، وقلق الانتظار، والمجد المحلي، والشهرة بين التلاميذ والأساتذة، الذي كان يحظى به الإنشاء، يستوي في ذلك الإنشاء بلغة المتنبي، والإنشاء بلغة موليير.
أذكر الإنشاء، ما يعني: التحرير والتحبير والتسطير، والتسويد، والتزويق والتوريق، وتهيئة الأوراق المزدوجة الملونة:(خذ بالك!)، ودفاتر «لْوِيسْ بَاسْتُور» ذي اللحية المهذبة المشذبة، أو تلك التي تحمل صورة أسد لا يهرم أبدا. وهو نوعان: الإنشاء المحرر بمنازلنا، والإنشاء المحرر بالفصول، إذ يباغتنا الأستاذ(ة) أو المتعاون الفرنسي(ة)، بفكرة الموضوع المطروحة على التو أمام اندهاشنا، وانصعاقنا، وهمهماتنا الرافضة التي تنحبس، فجأة، وتتبخر تحت صرامة الأوامر، واحمرار العينين، بالشروع في نقل فكرة النص، وتسويد الأفكار وَشَبْحِها، والتفنن في التعبير، واستنزال التراكيب، أو التَّعَمُّل فيها، وسلخ الزمن المحدود جدا، في التشطيب والخربشات حين تكون البئر نزوحا، واللغة حرونا، والأفكار ضالة وطائشة، والألفاظ شاردة وموصدة.
ارتبط الإنشاء عندي بالبرد، واقترن بالارتعاد، وهبوط الدم؛ في صبيحة توزيع الفروض المصححة، والتي كانت صبيحة (ات) مقرورة دوما، كنا ننحشر- أضأل ما نكون- في ألبسة مهترئة ذابلة، ومعاطف / صوف، متهدلة، وأحذية تضحك، أحذية أشبه بالجزمات المتروكة بعد فرار جيش منكسر، وبعد حرب خاسرة. كنا نسميها أحذية «عَبَّارْ الطَّرِيقْ»، ذلك الإسباني المتوحد الذي ابتلعه نداء غامض ذات مساء، نداء سِيرِينَةٍ ربما، وتبخر – كالوعد الجميل- في زحمة الأيام. وكنا نسميها أحذية أبي القاسم الطنبوري: تاجر بغداد البخيل العجيب. ولأمر ما، عشقت كتابة الإنشاء في الليالي المقرورة، وقراءته في الأصباح الباردات، الهامدات، المثلوجات أحيانا. ربما لأن البرد يضيف جرعة معتبرة من الدفء للغة، أو أن اللغة وهي تنبثق، وتَتَبَجَّسُ، وَتَتَفَصَّدُ من جسد بارد.. جسد كاتبه، لاَ تَنِي تبحث في مجرى الدم الفوار والشاخب، عما يملؤها دفئا، ويشحنها قوة وفتوة. وقد تكون كتابة الإنشاء – بمعنى ما- معركة بين الحياة والموت، أو بين الكينونة والعدم، بوصفها تشخيصا حبريا = دمويا مرئيا ومُؤْمَثلا، وبوصفها أيضا، هُلاَما وقصاصة ميتافيزيقية! وتجويفا راعشا وواعدا، وطائرا نافقا يستعيد الروح بالنفخ الملائكي، وَذُوَيْبَةً ملتصقة بالفَصَّ المفكر، بين ما يمنحها انتصارًا بيّنًا ولو في رقعة ضيقة، وبين ما يهددها بالخسران والهزيمة آنَ يَعْتَاصُ الموضوع، ويستعصي العَبُّ، ويشرد الذهن، وتتخشب الأطراف وتَزْرَقُّ بفعل الصقيع والوعورة، والجوع، والعصا المتلامحة مجازا وحقيقة.
كانت حصة الإنشاء ـ إنْ تقديما للفكرة، أو تحريضا على تحبيرها وتمطيطها، وعرضها وتحليلها ـ مناسبة مَلَكية لنا، للتنافس، والتَّدَايُك، و التَّطَاوُس، عَنَيْتُ ب : لنا، نحن أُولاءِ الذين كنا نعتبرها فرصة سانحة لإبراز مواهبنا ومعارفنا، ورصيدنا اللغوي والثقافي، و»سرقاتنا» الذكية التي كنا نعرف كيف نخفيها عن بعضنا بعضا، بل حتى عن أساتذتنا الذين يَاكَمْ خَدَعْنَاهُم «بتألقنا»، و»فتوحاتنا اللغوية»، وحذقنا الإنشائي، بينما الأسلوب، والتنميق والرونق اللفظي والتركيبي، يَرْتَدُّ إلى جمل وتراكيب المنفلوطي، وجبران خليل جبران، وطه حسين، وعباس محمود العقاد، ومحمود تيمور، ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وفؤاد القصاص، وإحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي، وأحمد حسن الزيات، ومصطفى صادق الرافعي، وإبراهيم عبد القادر المازني، ويوسف عواد، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، ومطران خليل مطران، ومي زيادة، وباحثة البادية، وسميرة بنت الجزيرة العربية، وغيرهم وغيرهن كثير.
أما المجلات، فكانت مجلة «العربي» غُرَّةً، ومنبعا وزادا ومرتعا، وملاذا، فضلا عن مجلات أخرى مشرقية لبنانية ومصرية تحديدا، لم أعد أذكرها بالاسم. وَاسْحَبْ ذلك على الإنشاء باللغة الفرنسية بالتمام والكمال.
هل هي مثلبة ومنقصة أم محمدة وفضيلة وزينة أتيناها في تلك الأيام؟ لا إخال إلا أنها فضيلة وحٍلْيَة بكل المقاييس، لأن بالسرقة والاستمداد، والنهل، والمتح، تَصَلَّبَ عودنا المعرفي، وتطورت اجتراحاتنا ومكائدنا، و» ثعلبيتنا «. واشتد ولعنا وهوسنا، وشغفنا بالبحث والتنقيب، والاستلاف، والتبادل خلال الأيام كلها، تلك التي تسبق الحصة المعلومة، أو تلك التي تعقبها.

لم تكن حصة الإنشاء بردا وسلاما على المتقاعسين المتأخرين الذين يتَنَكَّبون طُرُقَ البحث والتحصيل، والذين يكرهون الكتاب، ويجدون ضنكا ومشقة، ونفورا من فتحه، وتصفحه، والجوس خلال عوالمه وأعماقه وأبعاده. ومن ثَمَّ، كانت الحصة بمثابة جحيم، ومحنة حقيقية لهم. كانت تواريا، وتَخَفيّا، واندساسا، ولعنة ما بعدها لعنة، بينما كانت لنا فرصة ذهبية، ولحظة مواتية نصول فيها ونجول، نعلو فيما هم يسفلون، نَتَدَايَكُ عليهم، وننظر في اتجاه الزميلات بالخيلاء جميعها، مُقْتَنصين الحمرة التي تَشَرَّبَتْها الخدود، والبسمة التي تؤرجحنا على أثير من عطر وحرير، ودفء وثير.
أذكر أن الُمُرَتَّبين الثلاثةَ الأوائلَ، كانوا محطَّ شتائمَ مُقْذِعَةٍ، وعُرْضةً للقذفِ الدائم، والرَّمْي بِتُهَمِ الأنانية، والخيانة، والتمسح بأعتاب الأساتذة، والنقل من الكتب والمجلات. رَمْياتٌ طائشةٌ حاقدة تتميز غيظا من قِبَلِ الضّعاف والمتأخرين، ما يدفعنا إلى التباهي، وخرق الأرض، وبلوغ الجبال طولا.
كان الإنشاء الأول يتنقل في الثانوية على مستوى الأقسام المتماثلة. يَتَسَمَّعُهُ الكل مُكْرَها أوْ عنْ طواعية. وكنتُ فيمنْ تَعَرَّضَ – في كثير من الأحيان- للقذف والسب، والتوصيف الوقح الفظ. كما خضعتُ – المرة تلو المرة- للتفتيش علَّني أكون مسنودا بالرُّقَى والأحجبة والتعاويذ المكتوبة، أو ممهورا مردوفا بالخَرَزِ اليمنى، والعُقَدِ النفاثي، واللُّوبَان الصحراوي، والوَدْعِ المجلوبِ من جبل قافْ، أو من الثلث الخالي، أو بحر الظلمات!. غير أن الضحك والقهقهات كانت ترياقَنا، ومرْقانا إلى النسيان السريع، والصفح الجميل، والعودة الجماعية إلى «الكرة» و»الغابة»، والمسبح ذي الوحل الأسطوري، وبيع «سَاسْنُو» والبلوط، والفحم الحجري من أجل أكل نقانق «أَبَّا عْمَرْ» ، واكتراء دراجات هوائية نطوف بها على ديار الحبيب !
وكلٌّ يطوف بها، بدراجته المُكْتراة، حول « ليلاه»، حول دارتها التي تقبع في أكناف الجن، وحياض العفاريت – النفاريت.
حصص لا تنسى أبدا، مواقيتها البرد والقر، والدفء القادم، الطالع من المدفأة المنزوية في ركن ركين من الفصل. حصص لا أحلى ولا أمتع، على رغم القَفْقَفَة والارتعاد، والقلق، والانتظار القاسي للعَلاَمَة التي طالما علقت أعيننا بشفاه أساتذتنا، العلامة الفارقة التي أَعْلَتْ والتي أنزلت، والتي حفزت تلامذة تلك الأيام، فأصبحوا كتابا، أصبحوا إنشائيين، ومنشئين. تزايدت خبراتهم، وتجاربهم، وتراكمت معارفهم، وأرصدتهم في اللغة والفكر والأدب والفن، ما جعل مخيالهم يتسع ويتوسع، ومجازاتهم تنزاح بهم إلى بناء أوطان في اللغة، ولغات في الأوطان، وما يَعْنِي – من جهة أخرى- امتلاكهم للواقع العيني، والواقع المفارق، والأبعاد المتلامحة أو اللامرئية، حيث أنشأوه إنشاء، ولازالوا ينشئونه.
أمَّا بعدُ. من قال إنَّ الإنشاء مثلبةٌ؟ ومَنْ هذا الحاذقُ المارقُ الذي أدرج الكلمة في باب القدح، والذم والسَّفَهِ حتى بات يقال: كلام إنشاء أيْ شقشقة لفظية، وخواء معنوي طَنَّانٌ، ليس غير. معاذ الله !، وفي كل حالٍ، ليس إنشاء تلك الأيام.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 23/04/2021

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *