نبضات : كبوةُ بْنِ فرناسْ والعودة إلى مسقط الراسْ

ما ضَرَّكَ يا عباسُ لو كنتَ ماشَيْتَه وجارَيْتَه في ما يقول، تاركا إياه لوَهْمِه أو حقيقته بأنه الأعرفُ والأوفرُ علما في ما يتصل باللغة والأدب الإنجليزيين؟، ما ضرك لو اعتذرت له عما بدر منك في حقه، وما اقترفته يداك ذات إضراب طلابي اقتحمتم فيه الفصول والمدرجات، وأخرجتم زملاء لكم وزميلات لم يريدوا الانخراط في الإضراب الذي دعوتم إليه، أنتم ـ ممثلي الأحزاب الديمقراطية، وفصائل اليسار؟
أكان يغفر لك فعلتك التي عَدَّها خطيئة لا تغتفر، واعتداء صريحا على حق طلابه وحقه في إعطاء الدرس بالمكروفون الذي انتزعته من بين يديه، وأمرته بالكف عن ذلك لأنه « يخلخل « ويكسر إجماع الطلبة على الإضراب والاعتصام حتى يحققوا ما تعاهدوا عليه، وما يخوضون فيه؟
خَضَّكَ سؤاله البَدْئيُّ عن أخبارك، وإلى أين وصلتم أيها الغيفاريون في اعتصاماتكم وإضراباتكم، مذكرا إياك بالإساءة إلى حرمة الجامعة، و» حرمة أساتذتها «.
ولم تكن سهلا ولا طيّعاً ولا منبطحا حتى تعتذر، وتنسف مبادئ وثوابت نضالية آمنت بها، واعتقدت أنها أُسُّ الحقوق، وبَدائهُ إنسانية ليس لأحد الحق في دوسها، أو التشكيك في نجاعتها. وهي مناط إعادة الاعتبار إلى الجامعة، والبحث العلمي، وإلى طلابها من حيث وجوب توفير الظروف المناسبة، والشروط المواتية للإقامة الكريمة بالحي، والتغذية الجيدة، واستقدام الأساتذة ذوي الشهرة الأدبية والفكرية، وذوي التاريخ الحي، والمسار المشرق.
نعم، كنتَ مع طيف كبير تطالبون باستقدام وجلب أساتذة لهم قدم راسخة وباعٌ، وشأْوٌ أيّ شأو في مجال الفكر واللسانيات والفلسفة، والأدب بألسنته التعبيرية الثلاثة: العربية، والفرنسية، والانجليزية التي كنت طالبا فيها مراهنا على أن تتكلم بلغة شكسبير وشللي، وجويسْ، وتجيد التعبير والسفر والترحل في مناحي وأطواء ودفائن أدب ملتونْ، وفلسفة برتراند راسلْ. وكانت لائحة الأساتذة المرغوب فيهم بين أيديكم.
لكن، لا سبيل لإقناع من لا يملكون ذرة استعداد للاقتناع، وحبة خردل من قابلية الفهم والإفهام والحوار والاختلاف. ومن ثَمَّ، كنتَ ضحية جهلك، وربما حسن نيتك أو غرورك بما ينتظرك، وما زُرِعَ في طريقك من فِخاخٍ ومصايدَ ومكايدَ. وكنتَ نسِيتَ يا ابنَ فرناسْ، يا سخونْ الرّاسْ، أن في المنعطف من يستبقُ الأيام منتظراً إياك لتقف بين يديه مُراهنا على أن تركع خائفا مضطربا، طالبا الصفح والمغفرة، وتقر أن ما قمت به، وما أتيته لم يكن سوى نزق المراهقة، وطيش الشباب، وتهور الطلاب الذي زَيَّنَتْ لهم أعمارُهم كل شيء، وأوهمتهم بالملوكية لا المملوكية، وبالسيادة والقيادة، لا العبودية والخنوع والاسترزاق.
السنة نَيَّفَتْ على العقد السبعيني، وأنتَ طالب بشعبة الأدب الانجليزي سنة ثانية، واللحظة امتحان شفوي، امتحان يُعَزُّ فيه الأمر أو يهان. غير أنك أُهِنْتَ لا لضعفٍ في تكوينك، وتلعثمٍ في لسانك، وارتعادٍ عَرَى فرائصَك، وشحوبٍ كسا مُحَيّاكَ، وتَنَطُّعٍ لاَزَمَ أجوبتك، بل لثأْرٍ أصَرَّ الأستاذ أن يرد به اعتباره، ولانْتِقام دفينٍ تَحَيَّن الآنَ لا يأتيه إلا ضعاف النفوس، الأصاغر، أولئك الذين تخول لهم مراكزهم، القنص، والاقتصاص، والوَرَم الكبريائي.
ــ أتذكر ـ أيها الطالب ـ كيف اقتحمت القسم عليَّ، ونزعت المكروفون من يدي، وأمرتني بالخروج لأن الوقت إضراب، ولم تقدر شخصي ولا أستاذيتي؟
ــ وما علاقة ذلك الحدث الذي يمضك ويقض مضجعك يا أستاذ، بما نحن فيه من امتحان شفوي في سياق غير السياق، وشرط غير الشرط؟. ولعلك تعلم أكثر مني بأن الإضراب الطلابي كما الإضراب العمالي، كما أي إضراب، هو حق من حقوق الإنسان، مكفول بقوة الأشياء: بالمواثيق الدولية، والدساتير؟
ــ طيب ـ أيها الحقوقي النبيه، يا مُزَوْبِعَ نفسه معتقدا أنه يزوبع الناس. مَنْ صاحب المقولة الشهيرة التي كانت عنوانا لخطاب تاريخي بالولايات المتحدة الأمريكية، والتي غردت في أرجاء الكون، وأحدثت تيارا زنجيا عارما في الثقافة، والنضال، والشعر، والمسرح والموسيقا، والسياسة، تيارا طالب بالمساواة بين البيض والسود، والحرية، والحقوق المدنية، والدعوة إلى نبذ العنصرية وإدانتها. مقولة: لديَّ حلم،
I HAVE a dream
ــ إنه المناضل الحقوقي الشهير: مارتنْ لوثرْ كِنْغْ.
ــ لا يا سيدي، بل هو: أبراهامْ لنكولنْ رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.
ــ اعترضت محتدا: لكن أبراهام أوقف حربا أهلية كاسحة في الجنوب الأمريكي، ودعا إلى تحرير العبيد، وأنا متأكد مما أقول.
ــ أحقا أنت متأكد؟
ــ نعم، وبالإمكان أن تعطي الأستاذة الأمريكية التي معنا، رأيها؟
غير أنها ابتلعت لسانها، واحمرت وجنتاها، ونظرت إليَّ نظرة ذات معنى، نظرة تقول لي: أنت على حق.
وهكذا، استمرت المناوشة الشفاهية. قول يضاد قولا، موافقة تارة، وتفنيد تارة أخرى، كأننا نلعب لعبة قط وفأر؟ هل يلعبان حقا؟؟
حينها أدركتَ أنه يناور فقط، ويمعن في إيذائك بتغليطك، وتخطئتك، وأن السنة الثالثة أدب إنجليزي التي تهيأت لها كل التهيؤ، واقتنيتَ من أجلها كتبا ولا أوفرَ، ومراجع ولا أعمق وأيسر، تتبخر وتتوارى. فما كان منك إلا أن قلت له: ـ وقد أزمعت أمرك، واستجمعت شجاعتك، وأنت تهم بالخروج ـ: ـ حكِّمْ ضميرك، ونزاهتك، وموضوعيتك العلمية، وافعل ما تريد. ألف شكر يا أستاذ.
ألم يقل أبو مُحَسَّد الهائل العابر للعصور:
ــ صَحِبَ الناس قبلنا ذا الزمانا /// وعَناهم من شأنه ما عَنانــا
وتَوَلّوْا بغصة كلهم مــِـــــنْــ /// ــهُ وإِنْ سَرَّ بعضَهُم أحيانــا
غير أن الفتى يلاقي المنايــا /// كالحاتٍ ولا يلاقي الهوانـــا
وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ /// فمن العجز أن تموت جبانـــا
وفي حالتك، فإن الموت عند المتنبي، هو الفشل والسقوط عندك، أو هو وجههما الآخر. ذلك، أنك لم تعرف السقوط والرسوب الدراسي مطلقا، ما خلا سنة واحدة في الابتدائي. بل كنت، خلال تمدرسك وتحصيلك، طفلا وفتى، في مقدمة أترابك، وطُلَعَةً بين النجباء قريناتك وأقرانك. فكيف صار حتى كبوتَ، وفاتك القطار مخلفا في أذنك صفيرَ الشماتة والغبار.
فهل كان للأُنْس والأنثى والطرب سهم في ما جرى؟
وهل كان للنضال والنزال، يدٌ في ما حل بك وقَهْقَرَكَ؟، أم كان سببه قلة ترددك على الدروس المعطاة، وكان بعضها تطبيقيا يستوجب النباهة والحضور، كدرس الفونيتيكْ، والنحو الإنجليزي، والفروض الصفية، وغيرها؟ مما حَزَّ في نفس بعض أساتذتك، ومنهم صاحب الصولة والسعارالذي يبدو في الظاهرعنوان الطيبة والوقار؟، والذين ساءهم، كما ساءَه تحديدا، أن لا تحضر دروسهم بل تؤلب زملاءك وزميلاتك على مقاطعتها للانخراط في الإضرابات التي كانت تتْرى وتتوالى لِدَواعٍ موضوعية لا مجال لعرضها هنا.
فما كنتَ مُتَمَسّحا، ولاَ لاَعقاً حذاء أحدٍ، ولو كنتَ كذلك لنجحتَ في كل مراحل تكوينك بالكلية، ولَصِرْتَ أستاذا جامعيا أو عميدا لها كما صار بعض من تعرف على تواضع عدتهم وزادهم. ولك براهينك، وشهودك.
وقد أكد لك، يا عباس، زمرةٌ من أصدقائك وصديقاتك، أن الصواب ما قلته، لكن الأستاذ تلذذ باستثارة غضبك، وتوتير أعصابك، وإغاضتك، وإظهار أنه الآمر الناهي، وأن شأنك لاشيء إزاء شأنه. فإذا كنت أخرجته من القسم أو المدرج، فإنه عوَّلَ على إخراجك من الشعبة بل من الجامعة نفسها.
ومع ذلك، ومع كل ما بدر منه، شِمْتَ فيه بعض المروءة لعلها تكون رادعا ومنبها له، فتُتلِع رأسها لتدفعه إلى إحقاق الحق، ما يعني: إنجاحك. مما جعلنك تتربص النتيجةَ تربص ذي الحاجة، والجائع المتضور. وقد حدثتك نفسك أن الكرم يعلو على الشح والتقتير، وأن الشهامة تبرز في الملمات وفي البأساء والضراء. وأن الخير يغلب الشر لا محالة. والضمير يستيقظ بعد أن أَنَمْناهُ، وأَهَلْنا الصدأَ عليه، والوازع الخلقي ينهى عن كل لؤم وانتقام.
لكن، ما من ضمير ولا يحزنون. ظهرت النتيجة، وظهر معها الباطل وزهق الحق، فطرتَ يا ابن فرناس عائدا إلى مسقط الراسْ، منكسرا، مُحْبطا، مَهيض الجناح، خائب المسعى. كأن ما عزمت عليه، وما خططت له وأنت تنزل بظهر المهراس قبل عامين، سيتبلور تبلوراً، سيثمر، ويصبح داني القطوف، فتصير أستاذا جامعيا مع أواخر السبعينيات.
ثمةَ سيف باترٌ قطعك، وظلم فادح شقَّ جناحك، وبعثر ريشك، وشدخ كبرياءك، ودفعك دفعا إلى العودة من حيث أتيت. وعدت مهيضاً، معللا نفسك بآمال عِراضٍ قد تأتي، بل تأتي إذا رفعت التحدي عاليا، وضربت الهواء بقبضتك غاضبا ساخطا. وعزاؤك قول جدك الروحي العظيم، شاعر الأزمنة والأحقاب: أبو الطيب المتنبي:
فما يُديمُ سرورٌ ما سُرِرْتَ بهِ /// ولا يردُّ عليك الفائتَ الحَزَنُ
ولا أقيمُ على مالٍ أذلُّ به /// ولا ألذُّ بما عِرْضي به دَرَنُ
ما كلُّ ما يتمنى المرءُ يدركه /// تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ
وها قد جرت الرياح، واندلعت العواصف كأهوج ما يكون، فحولت سفينتك إلى ما لم يَرٍدْ لك على البال، بل وكادت تغرقها، لولا الألطاف، وكانت بمحاذاة مثلث « برمودا «، أو ما يطلق عليم ب « مثلث الشيطان «، وكنتَ على شفا جرفٍ هارٍ، فنجوتَ. فماذا أنت فاعلٌ يا ابنَ فرناسْ؟.

( يتبع )


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 12/11/2021