نبضات : لَفْقيرَةْ فاضْمَةْ اليَزْناسْنيّة: النخلةُ الباسقةُ 2/2

كانت جدتي، من جهة أمي، فاضْمَة التي تتكلم الأمازيغيةَ والعربيةَ الدارجة، في وقت واحد حسب نوعية الحضور والسياق، موزعة لسانها الذَّرِبَ على الجارات ولَفْقيراتْ العربيات والأمازيغيات، حسناءَ ذات جبين عريض، وأنفٍ دقيقٍ، وخدين أسيلين، وحاجبين مُقَوَّسيْن من غير تَطْريَّة، ولا نَتْفٍ، ولا تَزْجيجٍ. وكيف لها أنْ تفعل ذلك، وكان في عُرْف واعتقاد الناس ـ أيامئذ ـ فعلاً حراماً، ومعصيةً، وإثما عظيماً. زِدْ عليه، قصَّ الشعر، وتخضيب الشفاه بأحمر الشفاه. فالسّواكُ، والإثْمِدُ، سُنَّتان وجُنَّتان، والغدائرُ والضفائرُ، والشَّعَرُ الطويلُ المنسابُ على الأكتاف كالظلال في الهجير، مُبْتغى الجميع، وعطشُ الثيران، و» الحَلاليفْ.
ما رأيتها، وصبَّحْت على وجهها الصّبوحِ إلاّ وعَلَتْني رَهْبةٌ، وغَشِيَني خشوعٌ، ورَاوَدَتْني رَغْبةٌ في أن أَدُسَّ وجهي في صدرها، و هو ما كنتُ أفعلُ أكثرَ الأحيان. ما رأيتها إلا وألفيتها خيزرانةً في إزارها الأبيض ملفوفةً: بياضٌ على بياضٍ. ثلجٌ يثلج صدري، ونقاوةٌ تقطر نضارةً، وطِلاوَةً، وغَضَارةً. زهرةُ بيلسانٍ بدْءاً وختاماً.
مُرَوِّضَةُ الأفاعي السّامة، والحيّاتِ الفاتكةِ. لم تكن تخافها، بل تتعقبها كما تَتَعَقَّبُ دجاجاتِها وهي تَنْقُرُ الحَبَّ، وتلتقط الدّودَ، وخِشاشَ الأرضِ، مُقْبِلةً مُدْبِرَةً، مُتَهاديةً وهي تَزْقو أو تُقَأْقيءُ، تقودُها دِيَكَةٌ ملونةٌ ذواتُ ريشٍ برّاقٍ فاتحٍ وداكنٍ، تمشي مَزهوةً مُتطاوسةً، عُرْفُها الأحمرُ أو الورديُّ في الهواء، وصِياحُها في سمع الخيام، ومباني الطّوب واللّبنِ.
كما اشتهرتْ بكونها طبيبةً شعبيةً. تنهالُ عليها الطَّلَباتُ والدعواتُ، والتوسلاتُ، لتعودَ وتُداويَ طفلا أو طفلة، أو امرأةً أو رجلا، بالتَّفْلِ في صدورهم، وحَثْوِ الملحِ الساخن على وجوههم، وتحضير خَلْطةٍ عجيبة غريبة من زيت وخلٍّ، وفَيْجَنٍ، وشَبٍّ، وزعتر بمثابة دواءٍ للمعلول، وشِفاءٍ يتحقق بعد أيام. وتُحَضِّرُ « الجبيرةْ « لجبر كسور اليد أو الرِّجْلِ، بخلطة البيض والطحين، وصغار القصب، وما إلى ذلك.
وماهرةً كانت في نزع أو استئصال اللوزتين المُتَقَرّحَتَيْن، أوْ فَقْئِهِما باستعمال سَبّابةِ يدها اليمنى منقوعةً في الزيت، وصبغةِ « النّيلا « التي تبتاعها من دكان الحاج المَصْطْفى.
وكان التهاب اللوزتين فاشيا منتشرا في كل الفئات والأعمار. ولست أدري لِمَ؟. هل كان وباءً محدوداً وغير قاتل مثلما هو الأمر اليوم مع وباء كوفيد 19 الوبيل؟
وخبيرةً في مداواة « الليلْ « ( لَكرينةْ لْكَحْلا) التي تصيب الأطفال، بتشريط خفيف لأحد الفوديْن، بشفرة ( مينورا ). ولو لم تكن جدتي تُشْفي العِلَلَ والأمراضَ المختلفة، والدّمامِل المتقيحة، والكسور الخفيفة، لَمَا كانتْ قِبْلَةً للساكنة، وباباً مفتوحا تطرقه ليلَ ـ نهار، كلُّ متوجعةٍ، ومتألمةٍ ومَمْعودةٍ، أو ذاتِ مخاضٍ عسير.
لذلك أكْبَرْتُها، وأحببتها حبا جمّاً. زدْ عليه، حمايتَها لي من عَسْف أمي وعقابِ أبي. إذ كانتْ ـ إمَّا فعلا شيئا ضاراً، وألحقا بي أذىً ـ تغتاظُ، فتنهالُ على أمي وأبي معاً، تقريعا، ولَعْناً وتوبيخا، من دون أن يردا، وينبسا ببنت شفة.
وكانت حاذقةً و» مْعَلّْمَةْ « في تحضير ( لَمْسَمَّنْ / الْمَلْوي) المورق الدائري العريض، أين شُميسةْ منها؟. يَتَحَلَّبُ ريقي، ويقفز قلبي في صدري، وتغمرني حرارةٌ لذيذةٌ مفاجئةٌ عندما تَتَعَهَّدُ بتحضيره في الغد الموالي: ـ سأزوركم غداَ. هيئوا لي الطحينَ، والزيت والسَّمْنَ، والملحَ، والقصعةَ الطينية، والنارَ المسعورة.
آهٍ..اا كم يبعد ذلك الغدُ الذي تَعِدنا به جدتي. أنسى فروضي ودروسي، وأُدَحْرِجُ حبّاتِ الوقت الباقي دَحْرَجةً كما يفعل العابدُ بحبات المَسْبَحَة. ثم أنام وأنا أمضغ « لَمْسَمَّنْ»، وأعلكه مستبطئا، مُتّئداً، مُسْتلِذا طعمه في المنام.
يَحُلُّ الصباح، وتَحُلُّ في البيت جَلَبَةٌ وضوضاءُ: فَمِنْ صائحٍ، ومِنْ صارخٍ، ومُنادٍ، ومُتَعَجّل ومستعجل؛ ولَفْقيرةْ فاضْمَةْ المبكرة ـ كعادتها ـ مُنْهَمِكَةٌ في العَجْن والدَّلْك، وتقليبِ العجين، وتحويله لدائنَ.. لدائنَ حتى يستوي رَقائقَ في يديها العاجيتين الخبيرتين. ثم تضع واحدةً تلوَ أخرى في قصعة دائرية مُقَعَّرَةٍ من الطين المَشْوي، فوق نارٍ مُسْتَعرة يستغيث فيها اللهبُ باللهبِ، والجمرُ المُزَغْرِدُ بالجمرِ المُرِنِّ بين أجيجٍ وهَجيجٍ.
هي ذي صباحاتُ السعادة والسرور والحبور. صباحاتُ جدتي المجربةُ الخبيرةُ التي عاركتِ الزمانَ، وعاركَها، فأرْدَتْه قتيلاً.
صباحاتٌ تشاركنا فيها بعضُ الجارات وهُنَّ فَرَحٌ ونشاطٌ، ولَهْوٌ وزينةٌ، ودعاءٌ لجدتي بطول العمر. الصينية النحاسيةُ المصقولةُ تلمعُ، والكؤوس ترقص في أيديهن، تعلوها عمائمُ من زَبَدٍ، وتيجانٌ من رغوة تُسِرُّ الفؤادَ، وتشرح القلبَ، وتنعش الروحَ، وتملأ البطونَ الجوعى، والنفوس اللهْفى ، مْسَمْنّاً شهيا ولذيذاً، وشاياً « نْميلياً « ساخنا وفريدا.
كان لجدتي بناتٌ، أيْ خالاتٌ لي. يفرحن بها، ويُعْلينَ من قَدْرها، ويخَفْنَ صولتها وغضبها، فيمحَضْنها الحُب َّ الدافقَ، والتقديرَ الوامقَ. لكنْ أمي الحميْراءَ الضئيلةَ كانتْ الأحبَّ إليها، المفضلةَ لديها. ولست أدري لماذا؟، هل مَرَّدُ ذلك لحنان أمي الفياض، ودمْعِها السّاجِمِ الذي لا ينقطع عند كل مصيبة، وحادثة مهما صغُرَتْ، وإلحاحها على جدتي لزيارتنا دائما، وللإقامة بيننا إنْ هي شاءتْ؟
وإذاً، فهل يكون اختيارها لمنزلنا بعد أن داهمها المرض اللعينُ، وأقْعَدَها، ونال من جَذْوتِها، وحيويتها، بمثابة جوابٍ على سؤالي السابق؟
وهل يكون أبي بما عُرِفَ عنه من تواضع، وشهامة، وعطف، وتوقير لجدتي، هو من شجعها، وزَيَّنَ لها اللجوءَ إلينا، والمكوثَ بيننا، معزّزَةً مكرَّمَةً، ومخدومةً حتى لقيتْ ربَّها راضيةً مطمئنةً في ذاك اليوم الأسود الحالك الذي مَزَّقْناهُ صياحا، وبكاء، ونَدْباً، ونحيباً. ذاك اليوم الذي أعقبته أيامٌ وشهور وأعوامٌ لم تعدْ فيها لَفْقيرةْ فاضْمَةْ على قيد الغدو والرواح، والذهاب والأياب، والأمر والنهي. لم تعد فيها تُضيءُ ببياضها، حُزْنَنا وسوادَنا، وتمسحُ بوجودها، أوجاعَنا وأوْصابَنا، وتُداوي بحضورها، عِلَلَنا وأدْواءَنا.
وما تزالُ الشمعتانِ الموقدتان قُرْبَ رأسها، وقربَ رجليها، والقرآن يملأ الدارَ رحمةً، وخشوعاً، ورهبةً وجلالاً، وهي مٌسَجّاة مُمَدَّدَةٌ، غارقةٌ في صمتها الأبدي الرهيبِ، وبياضها الساطع، وبَفْتِ موتها، وإزارِها الذي لُفَّتْ فيه، ريثما تُغْتَسَلُ في الغد، وتُكَفَّن، وتوضعُ ـ يا لوعتي ـ في النعش ساكنةً وهامدةً؛ ما تزالان مِلْء العين والدمع، والقلب، ووجيع الذكرى.
وها أنا أتسلل، في جُنْح الليلِ غيرَ وَجِلٍ ولا مُرْتَعدٍ من الموت، إلى الغرفة التي « تنام « فيها، في غفلة عن الباكيات والباكين. أرفعُ الغطاءَ عنْ وجهها الملائكي البارد الهاديء تماماً. أطبعُ على جبينها الفضي قُبْلَةً طويلةً أضع فيها كل حبي، وبراءة طفولتي، وأمنياتي، ولوعتي، ودعائي. فأسمعها تقولُ: ــ لاَ تَبْكِ، يا بنيَّ، إنما رحلت إلى دار البقاء، إلى دار أبدية لن أعرف فيها، بعد اليوم، شقاءً، ولا ضَنْكاً، ولا حَطَباً. كنتُ أتمنى أن أراكَ تكبر لترفعني إلى عِلّيين، وتَمْسحَ بعض شقائي وغباري. لكن، منجل الموت حصدَ، والأجل جاءَ.
رَدَدْتُ الغِطاءَ. ودعتها، وخرجتُ، في حُلكة الليل، هائما على وجهي، باكياً. ولا أدري متى عدت إلى البيت؟
شمعتان لا تزالان قُبالةَ عينايَ إلى اليوم. ذُبالَتَهُما ترتعشان، ولم تنطفئا. وكيف تنطفئان وهما شاهدا صدق على طهارة، وبياض، ونور، و» دَرْوَشة» جدتي لفقيرة فاضمة اليزناسنية الحرة كما كانت تصف نفسها.
شمعتان.. اا بل دمعتانِ حارقتان، حارتان، موجعتان لا تزالان تسيلان، وتَهْميان، عُرْبونا على وجودها في ذاكرتي، وحضورها الدائم في قلبي ووجداني إلى أن يتوقف نبضي.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 12/03/2021

أخبار مرتبطة

  قد تحمل الحرب الإسرائيلية الجارية علnى قطاع غزة  المفكر المغربي المعروف عبدالله العروي على التفكير في كتابة الجزء الخامس

تعني الكتابة في ما تعنيه، أن تتواجد في مكان آخر بينما أنت قابعٌ في مكان مّحدد المعالم، أي أن تكون

يرتقب أن تستقبل مؤسسة»أرشيف المغرب» معرضا خاصا بمسار عبد الواحد الراضي، القيادي الراحل في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وقبله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *