نبضات … مَمَرُّ الصنوبرِ: ممر العبور، وممر الحبور

ها أنتَ ذا أيها الولدُ القَلُوقُ، قد جُزْتَ قسم الملاحظة، وجزت الطريق الذي أدمنته صباح ـ مساءَ، والذي أبْلاكَ وأبليته طيلة سنة بِحَرّها وقَرّها، بنحسها و» زَهْرها «. بفظاظة موادها وبرامجها ودروسها، وطُلاوَة مدرساتها ومدرسيها. جُزْتَ المِحْنَةَ، ومُنِحْتَ ذهبَ الفرصة الأخرى، وسانحة الطريق الآخر الأغبرِ والأجدرِ بإيصالك، وإدخالك نادي الطور الأول الثانوي.. نادي الناجحين.
فتَهَيَّءْ ـ إذاً ـ لِوَطْءْ الطريق المترب نصف المُعبَّد، وقطع ـ إنْ شئتَ ـ الممر الطويل المتعرج والملتوي الذي يخيط ممشاك من الثانوية إلى منزلك، بعد أن تخترق الهضبةَ الصلعاءَ الفطساءَ التي تنفتح ـ فجأةً ـ وكأنها عطَسَتْ، وأنت على قُنّتها، وفي مفترق شعابها، على غابة الصنوبر الفيحاء الزاهية الزاهرة التي تكسو الأرض العطشى اخضراراً، وترمي معطفها الزمردي البديع على يمينك وشمالك؛ فإذا الطيور تغريد وتسبيح، وإذا الهواء رقة وغضارة ومديح، وإذا أنت جذلانُ تكاد من فرط نشوتك تطير وتسيح، صادحا بكل ما أوتيت من جهير صوت وتبريح: آنَ الأوانُ للزمان أن يستريح، وللريح أن تنزويَ في آباط الفَيْجَن والعرعر والشيح. فيما يلوح كالقصر الغامض المهجور ( وكان فعلا غامضا )، مبنى إداري أبيض وجاثم كالغراب الخرافي الأبيض، رابض على مرتفع يحفه الصنوبر البهيج ذو الخضرة السندسية،
والضحكة المغناج، وشجر السَّرْوِ المتناثر المليح ذو السوالف السرخسية الغَنّاء، والسيقان الشهوية الدِّمَقْسية.
وكنتَ ـ أيها الولدُ ـ كغيرك من رفاقك ورفيقاتك، بل حتى كبار السن، تخافه وتخشاه، وتبذل كل ما في وسعك لتفادي التوجه إليه قصد غرض إداري، أو سحب نسخة من عقد ميلادك. ستواجهك وجوه عابسة عليها غَبَرَةٌ ترْهَقُها قَتَرَة. كلها أطماع في ما دون الدرهم، وإلا أتعبوك بالغدو والرواح، والصد والصياح، وأنت تقطع من الجانب الآخر ما يناهز مائة وأربع وأربعين درجة من الإسمنت المتجهم، تَفُتُّ في عضلة الرئتين، وتَهُدُّ البدن، وتُزْهق الروح.
تهيَّءْ أيها الجذلانُ الآنَ لسنة دراسية جديدة ستعرف فيها حصصا لا كالحصص، ودروسا غير الدروس. ومواد غير المواد. لا بمعنى أنك ستدرس الصينية، واللاتينية، والسنسكريتية، ونسبية إينشتاينْ، وإنما سَتَتقَرّى الفرقَ، وتفقد البوصلة، ويغيم المسلك إليها وقد عسُرَتْ، واشتط مضمونها، وهاج منهجها، وماج برنامجها، واختلط زواجها لجهة تعقيدها، وارتفاع منسوب غموضها.
وها جدتك تَبخُّ على صدرك ماء ساخناً مخلوطاً بمادة سائلة تجهلها. وأمك تحرق الحرمل والفيجن، والشب في مجمر فوق رأسك، دفعا للعين، واستدرارا لرضوان الله، وقربانا لكرامات الأولياء، حتى يفتح قلبك للحفظ، وازْدرادِ الدروس على «الرّيق الناشَفْ «، وجَرْشِ ما صعب منها وتوَعَّر كما يُجْرَشُ القمح، أو الجلد عند الحك والدَّلْك والفَرْكِ.
لكن، أيها القَلِقُ الذي لا يستقر على حال، خَبرْتَ الحقيقة، ووقفت على الطريقة، وأدركت أنه لو لم تكن تقوم باكرا في الأسحار على صوت أبيك وهو يصلي الفجر، وتندس في ركن من البيت: عليك البطانية الصوفُ، وعلى رأسك طائر السعد والفتح، وعيناك البراقتان النمساويتان ( نسبة إلى حيوان النمس ) تمسح الدرسَ تلو الدرسِ، من أعلى إلى أسفل مرارا وتكراراً، ما كان ليحصل ما حصل. وما كنت لتتقدم رويدا.. رويدا فاتحاً في دغل العلوم « الدقيقة « العصية، الطريقَ اللاّحبَ. وفي خميلة اللغة، ودوحة الآداب، المسرى العذب، والمجرى السلسال الدافق والبديع، والمضمار الرفيق الرقيق.
ولعلك وَعَيْتَ قبل اليوم، كيف أمكن لشريحة اجتماعية أن تعيش الرفاهَ، وبحبوحة العيش، والبذْخَ، وتقطن دورا ليست كدارك، وديار أغلب أصحابك، وزملاء الصف. وعرفت ما سبب ذلك. بل، ما أسبابه التي توزعت بين « الحظ» المواتي، والزبونية الفاضحة، والصحبة المُبْتاعة، والبيع والشراء، وحرق اسم هذا وذاك لدى « الرؤساء «، أو لدى « أصحاب الوقت». وبين من كَدَّ واجتهد حتى انْهَدَّ، وشدَّ الرحال إلى الشرق والغرب.
ولعلك أن تكون في ومِنْ صنف هؤلاء الأخيرين مادام أن وضعَ أبيك ، وضميرَك لايُخوِّلاَن لك « عقد الصفقة»، ويدحرج إليك كرةَ البَخْتِ، والقفز على ظهر اللحظة المواتية، والمصادفة الآتية. نعم؛ إنما يفوز باللذة الجَسورُ، على حد تعبير الشاعر «سَلْمَ الخاسر». لكن، من أين تأتيك الجسارة وأنت تَخيطُ وتَحوكُ بإِشْفَى الأحزان، قُماشةَ الخسران، وتكشف بنور البرهان، شرور الظلم والبهتان. وفي أي حال، فشروطك لا تسعف لِتَمْنَحك لذة العناق والمُخاصرة، وإنْ تَبَّلْتَهما بالمغامرة والكيد والمخاطرة.
ومن ثَمَّ، بات عليك أن تسهر الليالي، وتحرم نفسك من ساعات النوم الهنيء، وتفيق في الأصباح الأولى، في الغَلَسِ والناس نيام، رغم البرد والقَرِّ، والجوع، وضيق ذات اليد والجيب.
بات عليك أن تبرُزَ، وتُسَوِّقَ اسمك بين أترابك وأصحابك حتى لا ينخرمَ ويُداسَ، ويأكلك « الغَمَلُ « والإهمال وأنت مركونٌ في القسم كحجر ملمومٍ، أو فزّاعةٍ محشوة بالتبن والقش.
وقد صار لك جناحان لاَمرئيان. صرتَ تَنْتَعِل جناحين بهما تصل إلى مبتغاك في رمشة عين. كأنك الهدهدُ وقد دعاه الملك / النبي سليمان. ولم يكن لك من مبتغى سوى ثانوية سيدي محمد بن عبد الله، والسوق المكتظة ليل نهار بالعمال والأطفال والغرباء، ومنزلك رقم 329 المغروس في زاوية من زاويا الحي المغربي ( الذي أصبح أثراً بعد عين )، بمحاذاة الطريق الرسمي الوحيد المُعَبّدِ والطويل كلسان الشيطان: طريق النميمة التي لا تنتهي، والاغتياب الذي لا يتوقف، والثرثرة الفارغة، وأجوف الكلام، وطريق الغرام.
جناحان كانا لك: واحد للعبور، وآخر للمرور. وفي الأصل، هما واحدٌ. فإذاعبرت فقد مررت. وإذا مررت، فقد رسمت العبور. جناحان يقودانك إلى الثانوية النابتة بين تلّتين وهَضَبتين. على يمينها متى قصدتها، ويسارها متى « لفظتك» أقسامها، دورٌ متشابهة سوداءُ السقوف، نصف دائرية، واطئة قليلا، هي دور « الطّونو «. وخلفها ـ على بعد أمتار فقط ـ السكة الحديد التي يشقها ويمخرها جيئة وذهابا، كما تمخر السفنُ البحارَ، قطارٌ لا يعيا من الزفير والصفير والشخير كل صباح في الثامنة. وعند الثانية عشرةَ. وفي الظهيرة عند الثانية بعد الزوال. وفي العشية عند الخامسة. قطار مُبَقَّع عليه أسمالٌ من خشب مهتريء متصدع، وحديد صديء ومتوجع. مُبَقَّع بالفحم والسَّخْم، وحائل اللون تماما. ينقل زملاءنا وزميلاتنا التلاميذ من وإلى حاسي بلال.
كان جرساً قبل الجرس، إذْ ينبه المؤسسة بقَضّها وقَضيضها، وهو يتناهى إلى أسماعنا من بعيد، أن الثانيةَ عشْرةَ أزِفَتْ. والثانيةَ بعد الزوال قرْقَرَتْ. والخامسةَ مساءً وصلتْ وتؤذن بالغروب.
على وقع القطار، تُصاغ الحصصُ، ويتدبر المشرفون على المؤسسة التربوية، والعاملون بها ـ مديرا، وحراسا عامين، ومعيدين، وأساتذة، وأستاذات ـ تسييرَها، وتكوين مرتاديها وَفْقاً لزمنية تربوية بيداغوجية مضبوطة طبعاً. ووفقاً لوصول القطار. فبالقطار يُبْنى النهار.
والآنَ، وقد « شَرِقْتَ « علما وأدبا، وخُلُقاً قويما ـ أيها الفتى ـ بعدما كَرَعْتَ ما كرعتَ، وَرَشَفْتَ ما رشفت من زُلالِ العلم، وكَدارَةِ بعض حصصه. وشربتَ حُلْوَهُ وَمُرَّهُ، مُرَّ عابرا كالطائر، وحُطَّ ـ هنيئا مريئا، بغابة الصنوبر الزُّمردية، بالجنة الشجيرة الزاهية التي كانت لك / لكم مأوى، وملاذاً وملجأ، وحمايةً في الصهد والحر، وفي المطر والقَرِّ. في الصهد تسكب عليك الظلال الندية المشبعة بروائح الأرض والشجر التي تحيي النفوس. وفي البرد، تمطرك إبراً لا تُحْصى، خضراءَ وبنيةً، تلسعك كأنها تدغدغك، وتُجَمِّشُ إبطيك وعنقك، وتُبَلِّلك بعد أن تَغْتَسلَ جدائِلُها وأذرُعُها الحانيةُ المنبسطةُ والمتعانقة كالرجاء، ويصْبُبْنَ بعده عليك ندىً كالعقيق الأسطوري، واللؤلؤ البَحْرِيني الكريم، فتغشاك لذةٌ، ويغمرك انتشاءٌ تحار في وصفهما. وهل يوصف ـ بربكم ـ ما كان مصدره إحساس عُلْوي غريب، وشعور داخلي أريب، ونسْمة فردوسية خارقة وعابرة؟
ثم كان الصنوبر مائدة شهيةً محبوبة مطلوبة، تُسْكِتُ جوعك، وتشبعك قليلا وهي تغدق عليك بذوراً لا ألذَّ، ولا أشهى، تستخلصها وتسْتَصْفيها من أكْوازٍ بنيّة أو أقْماعٍ كبيرة وصغيرة. والعَصيُّ المستعصي منها، مآله، مساءً بمنزلك، النارُ المستعرةُ حتى تتفككَ وتسترخيَ بعد أن تُطَقْطقَ أضلاعُهُ وعظامُهُ، وتُبَقْبِقَ كالماء المغلي، حبوبُه وأكمامُهُ.
فهل تكون بذوره التي أكلت منها ما لا يعد ولا يحصى، وراءَ نباهتك و» ذكائك «، وسرعة حفظك للدروس؟، إذ ثبت طبيا، وقد عرفت ذلك الآنَ، أن بذور الصنوبر تحارب الأكسدةَ، وتتكرم على الجسم بالكالسيومْ. وعلى الدماغ بالفُسْفورْ، وضخ الدماء الحارة النقية؟
يا للصدف العجيبة. ا، ويا للتلقائية الغريبة .اا، ويا للفقر حين يكون جَبْراً لخاطر الطب والعلاج والتطبيب. حين ـ ومن دون علم ولا دراية ـ يكون ما يتناوله الفقراء، دعامة للصحة، وعمادا لتقوية الدماغ والمادة الرمادية فيه، وتأْجيجاً وإشعالا للذكاء، وذريعة للعمل والجد والمثابرة.
ألا يحوز العَدَسُ: طعامُ الفقراءِ بامتياز، الخواصَ الطبيةَ الخارقةَ، والخصائصَ العلاجية المُبْهرةَ؛ يتقدمها ـ مختالاً ـ الحديدُ، وغيره من المعجزات والعجائب؟. وأَلاَ يعتبر نبات الجَرْجِير، والهَنْدبُاء، والبوبالْ التي كنا نلتهمها التهاما بعد اقتلاعها في عين المكان، وفي اللحظة ذاتها، من دون تنقية، ولا غسل، ولا طبخ، ولا يحزنون، مفيدا للصحة والبدن، والذكاء، وتقوية الباه حتى؟
فهذا ما قالته البحوث الطبية التجريبية قبل عقود قليلة فقط، وتقوله رَاهِناً بطبيعة الحال. أم يكون الأمر ، في الأول والأخير، محضَ خرافة، وأكاذيبَ تُزَيِّنُ للفقراء ما هم فيه وعليه، لِتَدْحَرَ وتُفَرْمِلَ « هياجهم «، وتبعدهم عن التفكير في حقوقهم، وفي «مخطط» انقلابي وهجومي على القلة الثرية ذاك الثراء الفاحش الذي أوصلها إلى العيّوق بتعبير الجاحظ، دون وجه حق؟
لست أدري. وإنْ كنت أدري أن الصبي مسلوقاً وملسوعاً عاش، ولكن مرٍحاً ونشيطاً، وطُلَعَةً، وحافظاً لكتاب الله. كان يحفظ خمسين حزبا بالتمام والكمال، ولَمّا لمْ يُراهِقْ العاشرةَ من عمره. وقد يكون الحفظ إياه هو ما أمده بالصبر والمجاهدة، والرضا بالمقسوم. وساعده على الفهم البعْديِّ للدروس العصرية، والتهامها بِنَهَمٍ كما التهم في مناماته الكثيرة، الإجاصَ والموزَ، والأجبانَ، وأنواع « الكاطو « المختلفة التي لم يكن ليلحقها في الواقع المتعين. ولم يكن قد ذاقها لا في عرس، ولا في عقيقة، ولا في ختان. فمن كان في ذاك الزمان، يقدم في الحفلات، والمآدب، والولائم، الإجاصَ والموزَ كفاكهة، وأنواع الشوكولاطة، والكاَطُو والأجبانْ كمدخل إلى جنة رضوانْ؟؟


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 26/03/2021