نــــبــــضـــات : نعم لدعم الفن، لا لدعم الرداءة

أَرْعَنُ من يعادي الفن، ويدمغ الفنانين والفنانات بأقدح الصفات، وأسَفِّ النعوت. ومتخلف، بما لا يقاس، من يعتبر الفن والموسيقا والغناء تحديداً، صوت الشيطان، ومزمار إبليس في الوجود. وإذا كان البعض يستغرب هذا الكلام، ففي تراثنا الفقهي والأدبي، أقاويل غريبة رأت في الموسيقا بمختلف آلاتها، والأصوات الرخيمة، نداءات تستدرج الناس، بل حتى التقاة منهم، إلى الفسق والفجور والفساد. هذا، على رغم استحسان الرسول الأكرم للصوت الجميل، والأداء البديع، إذ شبهه بمزامير داوود.
لسنا نبغي من وراء هذه الكلمة، التأْريخَ لمسار ومسير تلك الأقاويل وردها إلى أصحابها لجهة البرهنة والتوثيق. إنما نحن في صدد إعلان الفرح بالفرح، أي تثمين الموسيقا، ومدح المغنين والمغنيات إنْ هنا أو هناك: في كل صقع ومَصر من أصقاع وأمصار العالم بمختلف مدارسها ولغاتها وآلاتها. لقد هوجم جمعٌ من الفنانين والفنانات الذين حظوا بدعم مالي سخي، وهو المال الذي ينتزع ضريبيا من جيوبنا. هوجموا باعتبار أن ما تَحَصَّلوهُ من مال من لدن وزارة الثقافة، إنما هو محض ريعٍ، وخطأ ارتكب، بينما أصحاب « الحق» والاستحقاق، وأولو الفن الحقيق بالتوصيف والتسمية، نُبِذوا، وأزيحوا بتواطؤ ما، وتَقَصُّدٍ ممنهج. والحال أن دعم الفن واجبٌ، و»فرض عين»؛ لكن في ظل شروط بعينها، ووفق مقتضيات وأحوال ومقامات، ينبغي التذكير بها وفي مقدمتها، وعلى رأسها أن تكون الأغنية المدعومة جديرة بالدعم، أي أن تكون نوعية، إضافية تحتوي على جمال الكلمات، ومتعة اللحن، وعذوبة الصوت. وما هَمَّ أن تكون شعبية ذات جذر وارتباط بثقافة الشعب، أو عصرية حديثة تَاَتَّى لها اللحن الطروب المواتي والموائم للمقامات و» الميازين»، والكلمات المنتقاة التي تبهج وتثير، وتدخل السرور إلى القلب والعقل والوجدان، وتهز البدن والروح والأعطاف، هزاً « زوربويا « في الحد الأقصى، وعاديا رفيعا وملونا في الحد الأدنى.
وما حدث يزري بهذا الكلام، ويدفعه دفعا إلى الوراء. وبيان ذلك أن في الدعم ارتجالا ودسيسةً، أو تبصرا محسوبا، واختيارا استراتيجيا. فالذين واتاهم الحظ، وابتسم في وجوههم، وكان من نصيبهم الكعكة والوزيعة، ليسوا سواءً، وليسوا على سوية واحدة في الحضور الوازن، والبذل والعطاء، والإضافة المنتظرة، والدفع بالأغنية والموسيقا المغربيتين إلى ذروة الإبداع والجمال، والفن والطرب والشجا والهديل. ما يعني أن كثيرا من الدعم ذهب إلى كثير من الأصوات الناشزة، والموسيقا الباهتة المكرورة. ذهب إلى النكرات المتقافزين الذين لا يعرفهم إلا مقدمو أغاني السبت، أو مقدم « شاو»، الخ. وهي البرامج التي باتت تكرس ذوقا سقيما، وفنا هابطا، ومطربين ومطربات « ذوي جبهة وسنطيحة»، تمرسوا بالكلام الخاوي، والزعيق العالي الذي يصم الآذان، ويملأ القلوب بالأذى والحسرة والمرارة.
ومن ثَمَّ، فجائحة كورونا ليست مشجبا لتعليق الدعم عليها، واعتبارها مبررا كافيا لمداواة جراح الفنانين والفنانات المطربين الذين ضاعوا إبان الأشهر الفائتة، علما أن فئات عريضة وسوادا غزيرا من شعبنا جُرِحوا وضاعوا، حتى أن الحاجة وهي بنت الجائحة، دفعتهم إلى التسول أو الانكماش والانطواء، أو انتظار كِسْفٍ ومائدة من السماء.
إننا ندعو إلى دعم الفن، ونعتز بالفنانين والفنانات في وطننا، كما نعتز بالمفكرين والأدباء والشعراء والتشكيليين والمسرحيين. لكننا، وبالموازاة، نحارب الرداءة، ونعمل على فضحها وتعرية المدعين الذين لا ريش لهم في الأصياف والأخراف، ولا برانس في الشتاءات الباردة القارصة.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 16/10/2020

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *