‬الحرب الروسية تفجر علاقة الثروة والسلطة في‬ المغرب

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

ربما لم يخطر في بال رئيس الحكومة المغربية، عزيزأخنوش، أن القنابل التي أخرجتها الحرب الأوكرانية الروسية من مخازن الأسلحة ستفجر في وجهه سجالا كبيرا وضعه في قلب التراشق السياسي – الإعلاميالمتفرّع عنها، فالذي حصل أنّ النيران المتكرّرة علىكييف سلطت أضواء حارقة على علاقة الثروة بالسياسة فيالمغرب الأقصى، بمجرّد أن بدأت الآثار الأولى للحرب على تزويد العالم بالغاز والنفط، وارتفعت الأسعار بشكلغير مسبوق في محطّات الوقود المغربية.
وعزيز أخنوش رئيس الحكومة، باسم حزب التجمع الوطني للأحرار الذي حصل على المرتبة الأولى في الانتخابات السابقة، في سبتمبر2021، ليس رجل سياسة فقط، بل هو أحد أثرياء المغرب الثلاثة الكبار، له باع طويل للغاية فيمجال المحروقات، وهو يرأس “هولدينغ” عملاقاً، فيقلبه شركة إفريقيا لتوزيع المحروقات التابعة له. وأول الخطايا التيطفت على المشهد المغربي هي الأرباح الهائلة على حساب المواطنين التيحققتها شركات التوزيع تلك، وقد فاقت أرقاماً خيالية يتداولها الشعب المغربي، والمناوئون، اليساريون منهم أو غير اليساريين، والنقابات والجمعيات المدافعة عن المستهلكين وأطياف المعارضة في البرلمان وخارجه. وهو الموضوع الذي أثير قبل الانتخابات، قبل أن يصبح عزيز أخنوش رئيساً للحكومة بعد سقوط مدوّ لحكومة الإسلاميين بقيادة سعد الدين العثماني. وقتها كان أخنوش وزيراً قوياً فيحكومتي عبد الإله بنكيران والعثمانيعلى التوالي، وعندما اتخذت الحكومة الإسلامية قرار تحرير أسعار المحروقات، راكمت الشركات وأصحاب النفط في المغرب أرباحاً خيالية أدّت، بشكلغير مباشر، إلى موجة من المقاطعة، كان هدفها أخنوش نفسه الذي كان من ضحاياها، بل إنّ تقريراً صادراً عن لجنة في البرلمان لتقصّي الحقائق أبرز، قبل نحو أربع سنوات، أنّ أرباح شركات توزيع المحروقات تجاوزت17مليار درهم مغربي، وهو رقم خيالي في بلادٍ تصارع من أجل تعميم التغطية الصحية والدفاع عن اكتفائها من الغذاء.
وحصل أنّ التقرير، وما أثاره فيالشارع المغربي وصالونات السياسة، ألقى في مجلس المنافسة، وهو هيئة دستورية تعمل على ضبط المنافسة الحرّة فيالميدان الاقتصادي، حجراً ضخماً فيبركةٍ بدأت تأسن وتفوح منها رائحة الغاز والبنزين القوية! فوجد رئيس الحكومة الحالي نفسه، قبل تنصيبه، في قلب معركةٍ وصلت أصداؤها إلى هذا المجلس، وانتهت أوراقها بين يدي العاهل المغربي الذي شكل لجنة ملكية لأجل النظر فيالقرارات التأديبية التي أصدرها مجلس المنافسة ضد هذه الشركات المتهمة منه بنوع من التواطؤ في ضبط السوق والتحكّم فيالأسعار على حساب منافسة شفافة تخدم المستهلك.

على الرغم من النهاية “التراجيديوقراطية” التيانتهت إليها أعمال المجلس وإعفاء رئيسه اليساري إدريس الكراوي، وتشديد ملك البلاد على إعادة النظر في القوانين المنظمة لعمله، فإنّ الدرس السياسي أنّ قوة النفوذ الذي تملكه شركات المحروقات، وأولها شركة رئيس الحكومة، أصبحت من عناوين اليومي السياسي والمعيشي للمواطنين قبل المختصين. وأصبحت الحقيقة البارزة أنّ النيران (أو الأضواء،لا فرق بينهما فيحالة المحروقات)،قد سُلطتْعلى رئيس الحكومة، بالرغم من أنّه أصدر بلاغاً (بياناً) يعفي فيه نفسه من إدارة مقاولاته، إن لم نقل إنّ السياسة شكلتغرفة الصدى للثروة، إذ صار يجرّ وراءه طبولها منذ ذاك الوقت.
آثار الحربِ على تزويد المغرب من المحروقات، أسوة بباقيالعالم، ثم الارتفاع الصاروخي للأسعار، بما فيها أسعار المواد الغذائية، سلطا الضوء على زواج الثروة والسلطة، متمثلة فيوضعية رئيس الحكومة الذي يعدّ، بقوة النص الدستوري، “شريكاً دستورياً” أعلى في إدارة السياسات العمومية. والحال أنّه لم يسبق لأيّ رجل سياسة أن جمع وراكم السلطة ونفوذها مع الثروة وتأثيرها، كما هو حال رئيس الحكومة المغربية، ما جعل الصحافيين والسياسيين والمحللين يلتقطون كيف أنه رجل السياسة الأول الذي راكم نفوذاً سياسياً واقتصادياً ومؤسساتياً لم يجتمع لغيره، حتى أنّه بدا، في لحظات برلمانية حديثة، ناطقاً باسم الأثرياء فيالسياسة وباسم السياسيين فيالثروة، عندما اعتبر، في لحظة رد فعلغير محسوبة، أنّ كلّ “ما قيل عن الأرباح مجرد كذوووب (كذب، بالدارجة المغربية)” من دون أن يقدّم أي دليل مادي على ذلك.
ومن أبرز الأصوات اليوم فيالساحة المغربية صوت ما أصبح معروفا باسم “جبهة إنقاذ مصفاة سامير”، وهي مصفاة لتكرير النفط وتخزينه، كان الوطنيون الأوائل قد جعلوا منها عنوان الاستقلال الاقتصادي وقاعدة للتحرّر في اتخاذ القرار. وتضم اللجنة أسماء من كل الطيف السياسي، سيّما التقدّمي منه، نشرت، أخيرا، تقارير موثقة ومرقّمة عن الزيادات الفاحشة فيالأرباح تجاوزت ضعف ما جرى الإعلان عنه سابقا، بناء على تقرير اللجنة البرلمانية لتقصّي الحقائق. وتعتبر الجبهة أن قرار “إعدام سامير”التيطالبت أحزاب مغربية عديدة (منها اثنان يشاركان فيالحكومة!) بتحويل أصولها الى الدولة (تأميم) يزيد من حدّة سلطة المال على حرية التنافس وتوظيف القرار السياسي في خدمة المستفيدين من أزمة المحروقات والأسعار.

الأنكىأنّ رئيس الحكومة، المقاول الأبرز فيالقطاع، لم يبدّد مخاوف الرأي العام المغربي، بل اكتفى بِرمْيِ الشك على تقرير برلماني، كان موضوع نقاش مؤسّساتي واسع، وعلى عمل مجلس دستوري هو مجلس المنافسة، كما اعتُبِر ردّاً على كلّ الأصوات، بما فيها تقرير وزير معه فيالحكومة السابقة التي قادها الإسلامي سعد الدين العثماني وتقارير جبهة “إنقاذ سامير”، وقد هاجم رئيس الحكومة كلّ هذه الأدبيات، من دون أن يعطي للمغاربة ما يبرّر به تكذيبه الذي أثار تعاليق كثيرة.
وعندما لا يجد المغاربة شبيهاً له في تاريخهم السياسي المعاصر،عادة ما يقارنون رئيس حكومتهم بالإيطالي سيلفيو بيرلوسكوني أو اللبناني رفيق الحريري، فيجمعه بين النجاحين، المالي والسياسي. كما يمثل مرحلة لم يسبق أن كان التلازم فيها بين السلطة والثروة تاماً كما الحال الآن، حتى أنّ السياسيين لايتردّدون فيالقول إنّ الثروة صارت هيالسلطة، ودليلهم على هذا الانتخابات السابقة في سبتمبر الماضي.
ولا يخفي سياسيون مغاربة من مشارب متضاربة أنّ السلطة والثروة توجدان اليوم في قلب الرهان الديمقراطي،كما يظهر من خلال نقد الائتلاف الذي يقوده أخنوش، وتسمية المعارضة اليسارية له، في شخص حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أولاً، ثم عموم المعارضة ثانياً بـ”التغوّل”، أيالهيمنة التي تقتل ما عداها، حتى أنّ الثروة “حرّرت” أصحابها من “إجبارية المساواة” بين الأحزاب فيالتنافس.

ومما وتَّر الأجواء أكثر من السابق الشعور العام لدى الهيئات النقابية وممثلي الفئات الوسطى بأنّ الحكومة التي يقودها الثري عزيز أخنوش تستعين بما يمكن تسميتها “دروعاً جبائية” في وجه الضريبة على الثروة، وجَعْل أيّ قرار من هذا القبيل لا يصل إلى التنفيذ. وثالثة الأثافي التي ما زالت تفاعلاتها تتوالى في المغرب الوسائل التياستعملت في حرب المحروقات والأسعار بين رئيس الحكومة وخصومه الإسلاميين، وفي مقدمتهم الرئيس الأسبق للحكومة عبد الإله بنكيران، فلم يتردّد الرجلان معاً فياستعمال ورقة قرار الجزائر في أكتوبر الماضي بقطع أنبوب الغاز الذي يمرّ بالمغرب ويتوجه إلى إسبانيا، وقد أصيب جزء كبير من الرأي العام بالذهول، عندما أصرالطرفان على استعمال ورقة أنبوب الغاز الجزائريالـ”أورو – مغاربي” في لعبة كسر العظام بينهما،عندما اتهم الرئيس الحالي، فيجلسة للبرلمان، الرئيس الأسبق بأنه “أخفى”عنه، قرار الجارة الشرقية للمغرب،وردّ عليه الرئيس الأسبق، من خلال “لايف” فوري، بأنّه فعل ذلك لأنّ “خصمه رجل أعمال ومقاول” فيالمحروقات، كان من الممكن أن يستعمل “المعلومة لترتيب أموره”، وبالتالي الزيادة في أرباحه.
كان واضحاً أنّ خطورة إفشاء ما أحاط بهذه المعلومات التي تدور عادة بين رؤساء الدول والحكومات فيعز التوتر مع الجزائر كان سلوكاًغير محبذ، واعتبرته مقالاتٌ عديدة نوعاً من الاستسهالغير المسؤول، وقد تكون له عواقبه، خصوصاً أنّ السياسيين البارزين أقحما اسم العاهل المغربي في مبارزاتهما العلنية، فقد اعتادت الطبقة السياسية المغربية التحفظ الكبير فيالحديث فيالقضايا السيادية، وفي تجريب أسلحة تدمير شامل، لا سيما التي لها علاقة بالجوار الشاقّ والحارق شرق المملكة. والقرارالجزائري في وقف أنبوب الغاز العابر للتراب المغربي، على الرغم من أنّه كان معروفاً ومتوقعاً، ذو سياق جدُّ متشابك، يعنى بعلاقات نزاع مغربية جزائرية تزداد حدّة، وبدولة تعيش تحولاً هاماً إزاء المغرب، هي إسبانيا، علاوة على احتمال استعماله فيحرب الإعلام التي تقودها المنابر والمنصّات الرسمية وشبه الرسمية في الجزائر ضد المغرب. ولم يسبق أن استعملت خفايا قرار هام كبير كهذا في الساحة السياسية، الشيء الذي ألقى بظلال معتمة على مصداقية رجلي السياسة المعنيين، وزاد من تأجيج حرب الثروة والسلطة والمحروقات فيالمغرب.

نشر بالعربي الجديد 26 أبريل 2022.

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 30/04/2022

التعليقات مغلقة.