صيدلية الأفكار 3- الطقس و التقنية

الصيدلية أو الفارماكون ، بلغة الإغريق ، ابتكار عجيب لمعالجة السم بالسم (الترياق) .السم قاتل و شاف في الآن نفسه .و بما إنه الأساس الوجودي لكل صيدلية ، تكون الصيدلية بحكم أسها ذاك مفارقة . مفارقة يكثفها شعارها أو طوطمها . الثعبان القاتل بسمه الشافي طوطم الصيدليات و الصيادلة .إنه الرمز و المفارقة المركبة للتضاد الملغز ، و العارضة للعبة المظهر و الحقيقة ، و المجسدة لاقتصاد المعنى المرسل .
صيدليتنا الرمضانية سنعرض فيها أفكار ملغومة بكل مواصفات المفارقة . أفكار صغيرة ، لكنها غائرة في المعيش الثقافي و اليومي « للمغاربة « . أفكار قاتلة بسمها لكنها في الآن ذاته ترياق جماعي لتدبير أمن و سلامة العيش في اليومي .

 

إرتكز كل من علم الاجتماع و الانثروبولوجيا الكلاسيكيتين في قراءتهما للمجتمعات غير الأوروبية على أطروحة ، من بين أطروحات أخرى ، مفادها كون هته المجتمعات مجتمعات طقوس ، في حين أن المجتمعات الغربية عموما مجتمعات التقنية . مثلما استهلك كثير من أهل البلد ، باحثين و غير باحثين ، أن البحث في الطقوس عامة ، و طقوس المغاربة خاصة ، يتواطؤ و يزكي ضمنيا تلك الأطروحة . سندهم في ذلك كون المجتمع المغربي غادر منذ عقود دائرة المجتمعات التقليدية بقبائلها و زواياها و طقوسها ، و انخرط في دائرة المجتمعات الصاعدة نحو عوالم التقنية .تكمن هشاشة الأطروحة الأولى وسذاجة القول الثاني في كونهما معا ضحايا مفارقة كبرى لم تهضم حدودها و أطرافها جيدا ، مثلما لم تتبصر أسئلتها بما فيه من الكفاية و العمق و اليقظة و الحذر .
ضدا على هشاشة الأطروحة الأولى ، يوضح عالم الاجتماع و الأنثربولوجي شارل لوكور صاحب كتاب “ الطقس و الأداة “ و العارف بطقوس المغاربة، أن السؤال الذي يفترض طرحه قبل إصدار الأحكام هو : ما معنى حقيقة الذات و حقيقة الآخر ؟ من هو المتحضر صاحب التقنية و إنسان الأهالي صاحب الطقوس ؟ كيف يمكن للمرء أن يكتشف في ذاته تعدديتها عوض الفرح السعيد بأحاديتها ؟ كيف السبيل كي يعثر المرء على الآخر فيه ؟ أسئلة يتقاطع فيها المعرفي مع الوجودي ، و بسبب ذلك وجهت نفس الباحث كي يشخص المفارقة المفقودة معلنا أن هنالك تناقضا و شرخا عميقين بين الكائن كما يبدو لذاته و كما يبدو للآخرين . يبدو الإنسان لذاته رجل تقنية و يبدو للآخرين مبدع طقوس ليس إلا . يتصور الأوربي نفسه رجل تقنية و ينظر للمغربي ككائن طقوسي . إنها المفارقة التي يتوجب على العلوم الاجتماعية فك لغزها عوض استهلاكها . ثورية العلوم الاجتماعية غربية كانت أو مغربية ، تكمن في فهم السوسيولوجيا التلقائية للناس ، و الوعي بأهميتها في كل فهم و تفسير و تأويل . كيف يتبادل المغاربة التحية ؟ و كيف يتناولون طعامهم ؟ و كيف يشيعون موتاهم ؟ و كيف ينظمون أعراسهم ؟ إنها الأسئلة التي تجعل العالم إما قادرا على الانخراط في اللعبة و فهم قواعدها ، أو غريبا عن مهنته و عن الآخرين .
ليس هنالك طقس من دون تقنية ، مثلما لا تنغرس التقنية في العلاقات الاجتماعية دون أن تلفها الطقوس .يكفي أن نتأمل طقوس توزيع الماء في الواحات ونكتشف تقنياتها المعقدة و المركبة ، وتقنيات البناء و الحصاد و الحرث بكل طقوسها الشاملة و الدالة … مثلما يكفي أن نتأمل صلاتنا اليومية بالتقنيات الذكية لنتبصر طقوس استعمالاتها و تزيينها و حملها وإشهارها في المجالات العمومية .تلميحات صغيرة ، لكنها قد تفتح الأبواب الكبيرة لتبصر هشاشة التضاد بين الطقس و التقنية وهشاشة رسمهما في صيغة كيانين متعارضين ، و كائنات متراتبة و مجتمعات متفاوتة .كل المجتمعات لها طقوسها و تقنياتها الطقوسية ، مثلما لكل مجتمع تقنياته و معارفه التقنية ، يبقى فقط تبصر الصلات المركبة بينها داخل سياقاتها .و كذا إدراك أن البعد المادي للتقنية لايمكنه أن يحيا اجتماعيا في غنى عن البعد الرمزي للطقوس.


الكاتب : نور الدين الزاهي

  

بتاريخ : 25/03/2023