« مرثية الغروب » للشاعر محمد رشوقي : النفخ الشعري في العناصر

صدر للشاعر محمد رشوقي ديوانه الشعري الثاني مؤخرا المعنون بـ « مرثية الغروب « عن مطابع الرباط نت .وقد توزعته مجموعة من العناوين ( مرثية لفروسية الغياب، في انتظار الصراخ، انكسارات على ساريات المساء، الكلام العصي، تراجيديا السقوط ، أوجاع موجة، لغة المرايا المرتعشة، طيور الشتاء، هسيس الليل، غيبوبة، سنونو الغياب طبول الغسق …).

مجموعة قوية النفس، يسعى من خلالها الشاعر إلى نحت إقامة شفيفة وشفافة في الشعر وبه ؛إلى حد تحولت معه المجموعة إلى نافذة على الذات والعالم . لهذا ، فالحالات المبثوثة في قوالب فنية، لا تنفصل ـ تأثرا ـ عن ما هو كائن ، في استشراف لما ينبغي أن يكون، مما جعل هذه الأضمومة موزعة دلاليا بين قطبين: قطب يجسد قيم الخير والعطاء؛ وآخر يمثل قوى التسلط والقهر. وبالتالي ، فكل قطب مؤثث شعريا . فالأول يضم مفردات حياة مثل الريح، الموجة، النار، الفجر، الولادة ..طبعا في جدل بنائي و تخييلي . أما الثاني وهو المناهض من قبل الذات وجموع عناصرها الممتدة في شرايين الحياة والشعر. وعليه، فالذات تنطرح ضمن مفردات الحياة عنصرا أيضا، يعضد الأفق المنشود فوق هذا الخراب الناجم عن التناقضات والتراجيديات، وهو ما أدى إلى سفر في الامتداد التاريخي والأنثربولوجي للإنسان، اعتمادا على حوارات أو حوارية درامية مع رموز الحياة والخصب، من خلال استحضار العناصر الأربعة التكوينية من ماء ونار وهواء وطين . . إنه تشكيل شعري ينتصر للحياة ، في استنهاض وأحيانا قصف رموز الظلام والفساد ب»حبات « صراخ يرى ويمشي بين الكائنات متصببا عرقا ونورا في آن ، كأن الأمل البارق يولد دوما من الجفاف والمعاناة القاتلة .
الديوان بهذا المعنى، صرخة شعرية ضمن رقود وقتل رتيب طال كل شيء . ورد في المجموعة قيد النظر، من نص « الكلام العصي» :
في أرخبيل القلق
البحر اللغوب
أو في شوارع الاسفلت
ومدائن الشمس المحروقة
ها أنا أمشي
مشجوج الرؤى
على ثلوج عذراء
من زجاج معشق
مضرج بالصمت
وحزن الغروب
ولهمسات الريح
باب حديقة
يحملني شغبي
كنار صديقة
من جانب آخر، يمكن التوقف حول آليات البناء الشعري في هذه المجموعة . منها حضور الذات ، ليس فقط كضرورة شعرية ؛ بل كعماد للحالات المتوالدة عبر نفس درامي في كل نص. في هذه الوضعية ، تتحول الذات إلى خيط يربط بين جماع الحالات المنطرحة سردا ، اعتمادا على وصف انزياحي يخرق المألوف؛ أي اضفاء صفات غير مألوفة على معطيات مألوفة . فتتحول الأشياء الموصوفة من وضعية أولى مألوفة، إلى أخرى موحية، على قدر كبير من الأنسة التي تقوم بأدوار متخيلة، إلى جانب أو على كاهل روح يتيمة ، تتوق إلى فضاء آخر يتخطى الخراب والعبث القائمين على قدم و ساق . نقرأ من نص « أسرار الرأس المقطوع « في نفس الديوان :
قبرات
لمراثي الليل
جاءت تتقمص رقصة العنقاء
رفرفت ذات بيداء
مهيضة الجناح
تبغي الجوزاء
في علياء
السموات
البعيدة
وعلى مرمى صخرة ملساء
هوت كنسر عجوز
فشرقت بماء الفضة
في مدارج العزلة

تبني الذات كونها الشعري بين ضفتين : ضفة الكائن المطبوع بالسقوط والتراجيديا المقيمة، وضفة أخرى تضيق كقبضة تطوي على بوارق أفق . فامتد ذلك للغة الشعرية التي أسندت الرمز الذي منح لبعض مفردات الحياة تشكيلا جديدا ،مضمخا بالانفعالات والمواقف النفسية والفكرية . في هذا الصدد ، يبدو أن الشاعر يهذب مقروءه المتعدد في النص الشعري، فالمعرفة من خلال التأمل و التجربة، تمنح الأرضيات الصلبة ، للانطلاق الشعري أي الوعي بالتفاصيل والقضايا الكبرى .
تعتمد المجموعة أحيانا على آلية بياض الصفحة والمقاطع ، فتبدو لك بعض الكلمات مبأرة من خلال تناثرها على البياض الذي قد يرادف الامتداد والوجود . في هذا السياق ، فالذات تعبد مساحتها حفرا أو حضور السفر في الأشياء ، ورسم الأثر المجسد في حالات من القلق المنثور، بنفس شعري يطول ويقصر. وبعبارة أدق يتوالد حتى أن ذلك يقتضي من القارئ الحزم للإمساك بالحالات المتراكمة . في هذا السياق قد تنزاح الذات عن ضميرها ، لتغدو متعددة أو بصيغة الجمع . لكن نفس لبوس الذات تراه متسقطا على مفردات أخرى . هنا يمكن الحديث عن تعميق للنفس الغنائي. فالإمكان توصيفه هنا ب»أنا « مركب، نظرا لتحول السياقات المجتمعية اليوم ، والشعرية أيضا، وهو ما يؤكد أن المجموعة تخرج عن إطار الوصف الشعري النمطي والبارد ، من خلال حضور قلق فاعل وحاذق ، يشق اللغة ويبنيها في فرن ومطبخ الحالة .
تابعت مسيرة هذا الرجل ، من خلال ديوانه الأول « معراج السفر» ، ولمست حقا تطورا واختمارا للتجربة في المحطة الثانية وديوانها « مرثية الغروب « حيث رصد الحالة شعرا وتعميق مستويات البناء ، عبر لغة صقيلة . ولي اليقين أن صديقي الشاعر محمد رشوقي سيزيل بعض الشوائب، بالأخص ما يتعلق بطول وقصر النص، دون حشو أو بتر.


الكاتب : عبد الغني فوزي

  

بتاريخ : 09/11/2019