كيف تصبح كاتبًا؟ 4- كيليطو: كنت شيئًا ما بورخيسيا حتى قبل مصادفة متنه

 

قدرات الفرد في الكتابة تُبنى بناءً وتكتسب اكتساباً، ولا تأتي مرة واحدة ، وكلّما كان الكاتب صادقاً وأميناً في التعبير عن مكنونات نفسه دون تكلّف كان التطور والإبداع لديه في الكتابة، فالكتابة بالنسبة للكاتب تضحى في مراحلها المتقدمة بمثابة عجينة يتحكم بها، ويصوغها كما يشاء، فيمتلك ناصية الكلمة والجملة والفكرة معاً.
في ما يلي اخترنا حوارات مع كتاب أجابوا عن هذا السؤال: «كيف تصبح كاتبا؟»:

 

– إلى جانب العربية والفرنسية، فأنت عارف باللغة الألمانية، بالتالي لديك نافذة نحو الأدب الألماني. فهل لعب هذا المكون، دورًا بخصوص حساسيتك الأدبية؟
– جانب، لا يمكن إهماله بالنسبة إلى تكويني. لا أستطيع، أن أقول، بالتحديد حمولة الأدب الألماني بالنسبة إليَّ. هكذا قرأت نيتشه وآخرين كثيرين، بالوقوف على نصوصهم الأصلية.

– هل بوسعنا، العثور ضمن ما كتبته، عن ذكريات وإيحاءات للأدب الألماني؟

– في فوست لغوته، ما يتعلق من بعض النواحي، باللحظة الحاضرة. يرفض، فوست أن يقول لها: توقفي، أنت بالغة الحسن. لقد استلهمت ذلك في أحد نصوصي. توقف أنت على قدر من الجمال: هذا يمثل عنوانًا رائعًا. لمسات طفيفة، تنبثق ثانية هنا وهناك، منها عنوان: حصان نيتشه. من بين شخصيات، هذا السرد، نعثر على صنديد في القراءة، شخص كافكاوي إلى حد ما. أيضًا، استفدت كثيرًا، بالاطلاع على بعض كتابات المستعربين الألمان. بفضل، اللغة الألمانية، عاودت الاتصال ثانية بثقافتي الأصلية، لتهيئ دراسات حول القرآن والعلوم الإسلامية الأساسية .هو تقليد أصيل ينحدر من القرن التاسع عشر. حاليًا، تتبلور مشاريع لـ”جوزيف فان إيس”van Ess، حول الثيولوجيا الإسلامية، وكذا تلك التي ينجزها “فولفهارت هينريش”Heinrichs حول الشعرية العربية. كنت، سأهمل أشياء كثيرة مهمة، في حالة عدم معرفتي بالألمانية.

– هل قرأت كافكا، بالألمانية؟
– نعم من السهل قراءته، بل وقمت بذلك وأنا تلميذ في الثانوية. أيضًا، قرأت بالألمانية مؤلفات كلايست kleist، فالادا Fallada، هاين Heine، بينما اكتفيت بالفرنسية فيما يتعلق بـروبير موزيل Musil، وتوماس مان Mann، وغونتر غراس Grass .

– هل بادرت إلى انفتاحات أخرى، تهم الآداب العالمية؟
يظل الأدب الأسيوي، بالنسبة إلي لغزًا، وبالتأكيد يشكل هذا ثغرة كبيرة، بحيث لم يتجاوز الأمر مجرد لقاءات عابرة…. قراءة دوس باسوس passos، ستلهمني وكذلك مع جويس. Joyce فعندما تقرأ كاتبًا كبيرًا، لن تكون بعدها، كما السابق. ثم جاءت مرحلة اللقاء ببورخيس. لقد، كنت شيئًا ما، بورخيسيا حتى قبل مصادفة متنه (تساءل ناقد إذا لم يكن الأدب العربي الكلاسيكي بورخيسيا، ثم هل من باب الصدفة أن يقع اختيار الكاتب الأرجنتيني على، ألف ليلة وليلة)، لذلك فعملي: الكتابة والتناسخ. اتسم بكونه بورخيسيا، مع أن أولى قراءاتي لبورخيس جاءت عمليًّا، بعد الإتمام من تأليفه. تقارب حميمي: يعجبني تواضع بورخيس الوهمي (ليس هناك أكثر غطرسة وجفاء من الخضوع الذي يظهره) ، موسوعيته الحيوية، الخطاب الذي يتأمل، استشهاداته الدقيقة تقريبًا، الانطباع الذي يقدمه وهو يبررها، كونه قرأ كل شيء…، سمات متعددة تميزه، جعلته قريبًا، بشكل مدهش، من الكاتب العربي الجاحظ، وقد أشار إليه.

– لنعد قليلاً إلى الأدب العربي، لقد اشتغلت في أطروحتك لنيل دكتوراه الدولة، على المقامات، وهو جنس أدبي عرف أيام مجده خلال الحقبة الكلاسيكية، ولعب دورًا كبيرًا في الجغرافية المغاربية خلال حقبة القرون الوسطى، مسألة غير معروفة كثيرًا. يظهر لنا في الزمن المعاصر، من الصعب جدًّا مقاربته. هل بوسعنا أن نبرز عبرها، رؤية للأدب العربي؟
– بسبب اللغة، والكلمات القديمة، والأنظمة الأدبية، والاستثمار البلاغي المكثف، يمكن أن يظهر بالفعل الاقتراب من المقامة صعبًا، لكن ليس أكثر من “أوليس” لجيمس جويس. هو جنس حكائي، أسسه الهمداني خلال القرن العاشر، ثم طوره الحريري، قرنًا بعد ذلك. هذا الأخير، قلده كثيرون، في العربية والعبرية والسريانية والفارسية… كانوا، يستهلكون المقامات، مثلما نصنع آنيًا مع الرواية. لكنها، ستعرف نكسة خلال القرن العشرين، نتيجة اكتشاف الأدب الأوروبي، بحيث نكتب اليوم “ضدها”. لقد تم تبني قوانين أخرى، و”اغتُرب” الأدب العربي تدريجيًّا عن ذاته، فصار أوروبيًّا بشكل واسع. زيادة على أن سياقًا كهذا، غدا ظاهرة كونية، فأكبر انتصار حققته أوروبا، نجاحها في أن تفرض أدبها، على امتداد كل بقاع العالم تقريبًا.

– في المقابل، ما الذي يضفي نوعية على الأدب العربي، بحيث تمثل داخله المقامات، جنسًا قائمًا بذاته؟
– حينما نتحلى بالصبر، لقراءة المقامات، نتمثل غناها الكبير. إلى جانب الأطروحة، التي هيأتها في موضوعها، فقد قضيت وقتًا طويلاً من أجل تحليل المقامة الخامسة، من بين مقامات الحريري، التي قاربت الخمسين. ثمرة ذلك، كتاب صغير، عنونته بـ: الغائب. لا يشعرني برغم ذلك، باستياء شديد، مادام لا يلائم مضمونه الحديث عمَّا ميز الأدب العربي، أي ما يضيع ويستنزف حين ترجمته. في نسخة فرنسية عن المقامات، نجدها ذات نفاذ سهل نسبيًّا، انتفت منها، تلك الكلمات العتيقة، والإيقاع، والإحكام، أي ما يشكل خاصية لها، وغاب التلاعب بالألفاظ، مما ينشئ لدينا الشعور بالسطحية والابتذال، بخلاف ألف ليلة وليلة، التي انتهت سليمة، مجازفة انتقالها نحو لغات أخرى. لذلك، لا زالت المقامات في انتظار دائم، لأنطوان غالان آخر، من سيجعل ترجمتها، حدثًا تاريخيًّا.

– هل اشتغالك الطويل، على المقامات، أثر في ما كتبته؟
– لقد اخترت دراستها، نتيجة ما تطرحه من صعوبة، فهي تجسد تحديًا سواء للباحث كما المترجم.يبدو أن الأوليبيون oulipiens، منشغلين بهذه المسألة. أثناء لقاء علمي، نظم حول جورج بيريك Pérec، في كلية الآداب بالرباط سنة 2000 عنونت مداخلتي، بـ: ”بيريك والحريري”. هل يعرف بيريك الحريري؟ هل اطلع على كتاباته ؟ عمومًا، لقد أحال عنه في روايته: الحياة دليل للاستعمال. وكذا مواضع أخرى. يضاف إلى هذا، أن باحثين اجتهدوا بخصوص دراسة العلاقة المحتملة بين المقامات والرواية الشطارية الأسبانية في أثناء القرن 16عشر. يشترك، أبطالهما في سمات عديدة: الهامشية، حثالة المجتمع، القناع، السخرية الصريحة، الدموع الخبيثة، التقلبات، وتغيير الاتجاه.

– المقامات التي ألفها كبار الكتاب الكلاسيكيين، تبقى فريدة، كما قلت. أما الأخرى، المنسوبة إلى الكتّاب المغاربيين، فتبدو جد باهتة .لكن إذن، كيف تأثرت بها؟ ثم وفق أي صيغ؟
– الأوقات الطويلة، التي قضيتها بصحبة النصوص العربية القديمة، أثرتني في العمق، مثلما حدث لآخرين، صحبة نصوص إغريقية أو يونانية .بلا شك، هناك صدى لتلك الجلسات، على خيالاتي .موضوع تلك النصوص، هو الأدب والأشكال الأدبية، نصوص قصيرة في الحالتين، مستقلة حتى مع ارتباطها بالمجموع المنطوية في إطاره. عودة البطل.


الكاتب : حاوره: عبد السلام الشدادي وماري رودوني / ترجمة: د. سعيـد بوخليـط

  

بتاريخ : 28/05/2020