اكتظاظ نافذ للسجون وإفراج مقيد للقوانين

 

بصرف النظر عن كل ما أثير حول بلاغ مديرية السجون سواء ما تعلق بالشكل أو المضمون، فقد كان له صدى قوي لدى مختلف الفعاليات المعنية والمهتمة نخص بالذكر منها رد رئاسة النيابة العامة الجهة المكلفة بالسياسة الجنائية المعتبرة أداة الدولة للتصدي للجريمة والوقاية منها وتتبع آثارها والعلم الذي يسمح بتنزيل قوانين ملائمة للتقليل من معدلات الجريمة ومواجهة السلوك المنحرف، وتمكين المشرع الجنائي من الوسائل العلمية الكفيلة بالقضاء على الجريمة أو على الأقل الحد من أثارها، فهي بذلك شأن مجتمعي يفرض مساهمة الجميع فيه.
فإذا شاطرت رئاسة النيابة العامة في تفاعلها مع بلاغ مدير السجون وإعادة الإدماج قلقه بشأن وضعية المؤسسات السجنية وأشادت بكل الجهود التي تبذلها المندوبية بغاية تجويد ظروف إيواء هذه الساكنة إلا أن ردها لم يوف للسياسة الجنائية حقها علاقة بآفة اكتظاظ السجون حيث لم يرد ذكرها إلا مرة واحدة، وقد كان حريا برد رئاسة النيابة العامة أن يوليها المكانة التي تستحق باعتبارها العنصر الأساسي للحلول المرتقبة للظاهرة. وأعتقد أن الدعوة التي وجهتها رئاسة النيابة العامة إلى عقد لقاء خلال شهر شتنبر المقبل يجمع المؤسسات والجهات المعنية لمناقشة موضوع الاكتظاظ بالسجون ستكون مجالا خصبا للوقوف على وضعية السياسة الجنائية بالمغرب والعيوب التي تكتنفها، وذلك بالاستماع إلى كافة الآراء والمقترحات والإمكانيات المناسبة لتجاوز كل الصعوبات والإكراهات التي ترتبط بتدبير الاعتقال الاحتياطي ووضعية المؤسسات السجنية في أفق تدخل المشرع في المنظور القريب لإيجاد الحلول التشريعية المنتظرة، سواء ما يتعلق بسن مقتضيات حديثة من شأنها تعزيز بدائل الاعتقال الاحتياطي، والتعجيل بإخراج المقتضيات المتعلقة ببدائل العقوبات السالبة للحرية، وأيضا قانون المسطرة الجنائية والقانون الجنائي بصفة عامة ..كما ورد في الرد المذكور .
فما هي هذه الجهات المعنية بمناقشة الظاهرة؟ وعلى ماذا يتعين أن ينصب النقاش؟
إن المتتبع الحريص لمسار الإصلاح القضائي بالمغرب سيجد أن ميثاق إصلاح منظومة العدالة، والذي هو ثمرة عمل ساهمت في تنزيله نخبة من ممارسين وخبراء و مهتمين من داخل الوطن وخارجه كان عملا تناول تفاصيل دقيقة تناولتها ندوات الحوار الوطني التي جابت سهول المغرب و جباله و صحرائه. فالندوات المذكورة مكنت المهتمين بالشأن القانوني والقضائي من كشف وتشريح جسم العدالة المغربية لمعرفة الداء، وانتقلت إلى وصف الدواء، لتبقى بذلك مبادرة تستحق الرجوع إليها ليست فقط لندرتها في مسار القضاء المغربي بل و كذلك لتكملة ورش ابتدأ غداة تنزيل دستور 2011، والذي عجلت الحكومة بتنزيل بعض مقتضياته من قبيل استقلال النيابة العامة عن سلطة وزير العدل، وهي تجربة تحتاج إلى تقييم قد تكون موضوع النقاش المرتقب لمواجهة معضلة اكتظاظ السجون علاقة بسلطة الملاءمة التي تتمتع بها النيابة العامة . ناهيك أن الميثاق يستمد قوته من الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة الذي شارك فيه الجميع ومن مصادقة الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة وموافقة جلالة الملك على مضامينه بعد أن شدد على أن الوثيقة ستخدم العدالة المغربية، وأن جميع الفاعلين في القطاع سينخرطون في تنزيلها بشكل سليم وعلى رأسهم القضاة.
فالميثاق الوطني لإصلاح العدالة، وفي إطار تشخيصه الموضوعي والجريء لواقع العدالة المغربية « اعتبر أن السياسة الجنائية تشوبها عدة نقائص تظهر في ضعف التنسيق بينها وبين السياسات العمومية وفي نقص الاهتمام بمقاربة النوع الاجتماعي وضحايا الأفعال الإجرامية وضعف إشاعة ثقافة حقوق الإنسان بما تنطوي عليه أيضا من واجبات ومحدودية آليات البحث الجنائي، الذي يرافقه غياب إطار قانوني حديث خاص بالطب الشرعي وبنوك المعطيات الجينية وغياب مرصد وطني لدراسة وتتبع ظاهرة الإجرام، كما اعتبر أن العدالة الجنائية تتصف بتضخم في نصوص التجريم والعقاب كآلية أساسية لمحاربة الجريمة، وبعدم ترشيد الاعتقال الاحتياطي وتدقيق الضوابط القانونية المبررة للوضع رهن الحراسة النظرية، وبعدم التفعيل الأمثل لمبدأ ملاءمة المتابعة وللآليات البديلة للاعتقال، وكذا لضمانات المحاكمة العادلة كما لاحظ على نظام العقوبة وجود هوامش واسعة بين حديها الأدنى والأقصى، وعدم فعالية العقوبات القصيرة المدة في تقويم المحكوم عليهم، وعدم توفر آليات ناجعة لتتبع حالة العود الجنائي وتنفيذ المقررات القضائية الزجرية، لا سيما المتعلقة بالعقوبات المالية».
إلى جانب التشخيص دعا الميثاق إلى العديد من المبادرات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، ما تم النص عليه في الهدف الاستراتيجي الثالث المتعلق بتعزيز حماية القضاء للحقوق والحريات والمتمثل في نهج سياسة جنائية جديدة وتطوير سياسة التجريم وإرساء سياسة عقابية ناجعة وتعزيز ضمانات المحاكمة العادلة وضمان نجاعة آليات العدالة الجنائية وتحديث آلياتها.
إن ظاهرة اكتظاظ السجون موجودة منذ أن رفعت السرية عن معرفة عدد السجناء إلا أن الآفة استفحلت بسبب التراخي الذي حصل في تنزيل النصوص القانونية المناسبة وفي الوقت المناسب خاصة بعد استقلال النيابة العامة عن سلطة وزير العدل، فقد كان من الضروري أن يتم تنزيل النصوص القانونية في الزمن الحقيقي دون تأخير ودون أن تمنح أولوية لنص على آخر، فالعدالة المغربية التي أصبحت تسير بثلاثة رؤوس –رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، رئيس النيابة العامة ووزير العدل – يجب أن تضع نصب أعينها مقتضيات الفصل الأول من الدستور في فقرته الثانية من أن النظام الدستوري للمملكة يقوم على أساس فصل السلط ، و توازنها وتعاونها والديمقراطية والتشاركية، وربط المسؤولية بالمحاسبة. وبالتالي فلا أشك في كون خرجة السيد مديرالسجون هي صرخة من أجل التعجيل بتنزيل النصوص القانونية حبيسة الرفوف دون سبب مقبول. وأعتقد جازما أن القوانين والحلول موجودة منذ مدة ، يكفي الإفراج عنها..
(*)محامي بهيئة القنيطرة


الكاتب : حسن مزوزي (*)

  

بتاريخ : 02/09/2023