الدبلوماسية المغربية عبر التاريخ -6-

السلك الدبلوماسي والقنصلي لدولة الأنبيريال بالمغرب خلال القرن التاسع عشر

 

يجمع المؤرخون المغاربة والأجانب على أن المغرب بلد يضرب في عمق التاريخ بجذور تمتد إلى ما قبل العهود الرومانية والفينيقية والبيزنطية، وفي هذا دليل على أن الرافد الأمازيغي في المغرب شكل منطلق هذا التاريخ وأسس حضارة الشعب المغربي. وعلى العموم استطاع المغرب أن يرسخ مكونات الدولة المغربية من العهد الإدريسي إلى العهد العلوي مرورا عبر مختلف الأسر التي حكمت المغرب. ومن مميزات الدولة المغربية على امتداد العصور أنها حرصت على ربط الجسور مع دول البحر المتوسط وإفريقيا جنوب الصحراء والمشرق العربي والإسلامي ودول عبر المحيط الأطلسي. وهذا ما تسنى لها أن تقيم علاقات دبلوماسية وطيدة مكنتها أن تتبوأ مكانة دولية عززتها بما راكمته من إنجازات تمثلت في تنظيم سفارات وبعثات إلى كثير من الدول، وكذلك من تمكين هذه الأخيرة من فتح قنصليات لها على التراب الوطني.
وهي إنجازات تعود أكثر إلى القرن الثامن عشر، حيث استطاع من خلالها المغرب أن يكسب مقومات النهضة وبناء جسور الحداثة.
إن هذه المحطات البارزة في تاريخ المغرب المجيد جديرة بالاهتمام بها والعودة إليها من منظور جديد حتى يستطيع القارئ المهتم اليوم أن يقيس مدى حضارة بلاده وعمق تجذرها في الفضاء الجهوي الذي تنتمي إليه. وفي هذا الإطار ارتأينا أن نقدم جانبا من إصداراتنا التي انكبت على هذا الموضوع، تضيء بالخصوص العلاقات التي نسجها المغرب مع دول أوروبا وأمريكا اللاتينية. يتعلق الأمر في هذا المقال بتقديم كتاب (العلاقات المغربية النمساوية – الهنغارية: تاريخ وذاكرة المشتركة)، والذي نشره مجلس الجالية المغربية بالخارج سنة 2020، والذي نتمنى أن يجد فيه القارئ المهتم مادة دسمة حول عراقة هذه الدبلوماسية وما اتسمت علاقات المغرب الخارجية من زخم على أكثر من مستوى.

يرصد هذا الكتاب الممارسة الدبلوماسية لدولة الأنبيريال ووضعية دبلوماسييها بمغرب القرن التاسع عشر، بما في ذلك تمتعهم بالحصانة الدبلوماسية ومشاركتهم في صناعة تشكيلات اجتماعية جديدة منشدة أكثر للخارج منه إلى الداخل و الأمر هنا يتعلق برعايا الأنبيريال بالمغرب. وفي هذا الصدد يتعرض الكتاب للحالات الاجتماعية لهذه الشريحة الجديدة وانتشارها الجغرافي. وتجدر الإشارة، أن الإمبراطورية النمساوية الهنغارية كانت تدعى بالمغرب، تارة الأنبيريال أو النبيريال أو حتى نبريال (تحريفا لكلمة إمبيريال impérial أي الإمبراطوري)، وتارة أخرى أوسترياكو أو السرياكو أو الأسطرياكو عن صفة مشتقة من اللغة الإسبانية: austriaco، وثمة تحريف أخر في المشرق قريب منه، وهو أن الروسيين كانوا يطلقون نيمتس Niemets على النمسا، فقلدهم الأتراك، وسار عرب المشرق على نهجهم في هاته التسمية ، في حين أن أهل النمسا يسمون بلادهم (OSTERREICH). وأيا كان الأمر، فقد كانت الإمبراطورية المذكورة حلفا بين دوليتين كبيرتين بأوروبا الوسطى، دام من سنة 1867 إلى سنة 1918، وهما النمسا والمجر (أي هنغاريا). وبعد الحرب العظمى، تجزأت إلى دول مختلفة زيادة على المذكورتين وإلى تشيكوسلوفاكيا، وألحقت أطرافها بايطاليا ورومانيا ويوغوسلافيا، إثر معاهدة سان جرمان. وظلت الأنبيريال ذات علاقة دبلوماسية مع المغرب في منتصف القرن التاسع عشر، تمثلها انجلترا، وتارة ألمانيا، مع وجود قنصل عام أنبيريالي بطنجة ابتداء من سنة 1868.
لفهم طبيعة الممارسة الدبلوماسية لدولة الأنبيريال بمغرب القرن التاسع عشر، يجب التطرق للمطالب الثلاث الآتية:
السلك الدبلوماسي والقنصلي بمدينة طنجة
ترجمة القنصل العام ماكسيمليان شميدل
المحميون والمستوطنون بمدينة طنجة
السلك الدبلوماسي والقنصلي بالمدن المغربية
السلك الدبلوماسي والقنصلي
الدكتور ماكسيمليان شميدل Maximilian Schmiedl الذي ظل قنصلا عاما من سنة 1868 إلى حين عزله في منتصف 1885 وخلفه:
بول ريطر ريكليان فون أوهنموسفيك P. Ritter R. von Ohmocevic وهو الذي عين إثر فضيحة سلفه، وقد لبث في منصبه من سنة 1885 إلى 1890. ولما عزم على الرحيل، قال له الطريس: ‹›بلغنا أن جنابكم قد استوفى مدة الخدمة بهذه الإيالة، وأنك على نية السفر. فتأسفنا لذلك الغاية، لما ألفناه من خيراتكم وحقانيتكم وسعيكم دائما في الخير بين البلدين››.
وذكر كانوكي وزير خارجية الأنبيريال في رسالته إلى الطريس أن أوهموسيفيك كان سنة 1885، قبل تسميته بطنجة، قنصلا عاما بمدينة بور سعيد، فقد يكون من المستعربين إذن.
كارل ريطر فون بوليسليفسكي Karl Ritter von Boleslewski الذي تولى شؤون القنصلية العامة حتى 1896 وخلفه.
الكونت جلبيرت فون هوهنفارت G. von Hohenwart الذي كان سنة 1899 وزيرا للإمبراطورية بطنجة
ومن ثمة، كان للأمبراطورية وجود ضعيف لا نصاعة فيه، للنزاع الذي شب بين البعض من المحميين الإنبيرياليين وبين الدكتور شميدل الذي سأتناول الحديث عنه الآن.
المحميون والمستوطنون

أولا: المحميون (من تقييد ابن زيدان (1880)) ومن غيره. ثانيا: السماسرة لم يقف مصطفى بوشعراء إلا على اسم سمسار واحد كان يعمل لحساب اسحاق أبنسور ترجمان القنصلية العامة، وكان لهذا السمسار نسب عام، هو عبد السلام المنصوري الذي كان مسجونا بطنجة سنة 1892، فتدخل القنصل بوليسلافسكي لدى السلطات المحلية لتسريحه وفيما يخص السلك الدبلوماسي والقنصلي بالمدن المغربية ( أنظر مصطفى بوشعراء (الاستيطان والحماية.. ).
علاقات المغرب بالنمسا زمن الحماية الفرنسية
اعتمدنا في رصد طبيعة علاقات المغرب بدولة النمسا زمن الاستعمار الفرنسي على الجريدة الرسمية والتي بطبيعة الحال يعكس توقف العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع هذه الدولة وذلك راجع بالأساس إلى أن المهام الدبلوماسية والتجارية أوكلت بحسب بنود الحماية الفرنسية إلى المقيم العام الفرنسي.
* الفصل الثاني: النمسا – هنغاريا في مؤتمر مدريد (1880) والجزيرة (1906):
المساهمة في تدبير قضايا: التجنيس  والحماية القنصلية والتدين والبوليس
يرصد هذا المحور مشاركة النمسا – هنغاريا في الأوفاق والاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي أبرمها المغرب أو التي كان طرفا مباشرا فيها. كما يتم الانكباب على إبراز القضايا التي طرحت على طاولة التفاوض والتي انحصرت في قضية التجنيس والحماية القنصلية ومسألة حرية التدين، ووفق ذلك سيتم رصد طبيعة وحيثيات مشاركة النمسا- هنغاريا في مؤتمر مدريد.
مسألة التجنيس
والحماية القنصلية

استفحلت ظاهرة التجنيس والحماية القنصلية في مغرب القرن التاسع عشر وأصبحت موضة العصر بامتياز. فغدا البحث خارج البلاد عن جنسيات أجنبية من أجل الحصول على فرص أكثر للعمل وللتجارة أو ببساطة الاستقرار الدائم في بلاد المهجر عنوان شريحة من المجتمع المغربي أصبحت منشدة أكثر للهجرة. وقد كان لطريقة استيطان الأجانب بالمغرب وحوافزه الأثر المباشر على تشجيع المغاربة نحو الهجرة، مما سيخلف انقلابات خطيرة على مكونات المجتمع المغربي خلال القرن التاسع عشر.
طبيعة وحيثيات مشاركة النمسا – هنغاريا في مؤتمر مدريد

لما وجت السيد درامند هاي أن الحماية القنضلية قد استفحلت في المغرب بعث برسائل إلى مجموعة من الدول لعقد مؤتمر مدريد و تنظيم الحماية القنصلية فكانت النمسا من الدول التي استجابة لاقتراحات الحكومة البريطانية. والرسالة من وزير بريطانيا العظمى المفوض بالنمسا إلى وزير الخارجية البريطاني تتعلق بتمثيل النمسا في مؤتمر مدريد :
و هذه الرسالة موجهة من سير هنري إليوت وزير بريطانيا العظمى المفوض بالإمبراطورية النمساوية الهنغارية إلى وزير الخارجية البريطاني مركيز ساليزبوري يخبره فيها أن سفير النمسا و هنكاريا في مؤتمر مدريد هو الذي سيمثل دولته في مؤتمر مدريد،
الرسالة مؤرخة في 18 مارس 1880 ( الخميس 6 ربيع الثاني عام 1297هـ) و هي منشورة في المراسلات الإنجليزية تحت عدد 68، و منها نسخة مرقونة محفوضة بمديرية الوثائق الملكية ( سجل 13249- محافض بريطانيا العظمى و الحماية القنصلية و النمسا).
المغرب في مواجهة حرية الاعتقاد والتدين خلال القرن التاسع عشر

وافق المغرب في نهاية شهر مارس من عام 2014 بجنيف، على قرار أممي لضمان حرية الدين والمعتقد؛ وعلى الرُّغْم مِن أنّ هذا القرار يشدد على ضمان حرية العقيدة بجميع أشكالها وصورها، اعتقادا وممارسة؛ فإن المغرب مرغم أن يبذل جهدا مضاعفا من أجل جعل النموذج الذي يقدمه للرأي العام الداخلي والدولي نموذجا قادرا على الإقناع وفي الوقت ذاته قابلا للتسويق. وفي السياق ذاته يجد المغرب نفسه أمام تحد الظهور بأنه بلد منخرط في محيطه الدولي وبالتالي مؤمن بتفعيل قرارات الهيئات الدولية والمتعلقة بحقوق الإنسان وبأنه يقدم نفسه نموذجا في المجال الديني، وبين كونه لا يعترف بحرية الاعتقاد التي تشكل مجالا للعمل الحقوقي على الصعيد الدولي اليوم، وتعد مقياسا تقاس به درجة الانفتاح الديني والسياسي لأي بلد.
إن حرية الاعتقاد المطروحة على صعيد مجلس حقوق الإنسان تجعل المغرب يعيش حالة ارتباك بين سقف المؤسسة الدينية الرسمية في موضوع حرية الاعتقاد، ويعتبر أي خروج عن الإسلام ارتدادا تترتب عليه أحكام فقهية، وبين الموقف السياسي.
لقد سبق للمغرب خلال القرن التاسع عشر أن طرحت عليه في سياق دولي ( مؤتمر مدريد 1880) مسألة حرية التدين أو حرية الاعتقاد، وهنا يطرح سؤال المعالجة والتدبير من لدن الحكومة المغربية ومن لدن جماعة الفقهاء والعلماء.
فإن المنابر الدينية بادت عبر مؤسسة الاستشارة السلطانية إلى طرح نازلة حرية الاعتقاد حلى قاعدة الشرع وقد عهد الحسن الأول إلى قاضي فاس الفقيه والعالم محمد بن عبد الرحمان العلوي المدغري بكتابة مشروع للجواب عن المذكرة، فحرره بعد استشارة العلماء بالأمر .
إنّ البحث في قضايا حرية المعتقد ومنهج تعامل العقل الفقهي لمغرب القرن 19م معها، مدخل لفهم منهجية التفكير الديني ومدى إسهام الفقهاء في تدبير المتغيرات التي تطرأ على الحقل الدينين وبيان الفكر الديني الذي يحكم جماعة الفقهاء والعلماء في التعامل مع المخالف الديني مثل ما طرح على هذه الجماعة في مؤتمر مدريد والأمر يتعلق بقضية حرية الاعتقاد والتدين.
إن مستجد «حرية الاعتقاد» الذي أقحم ضمن جدول مؤتمر مدريد يشكل أرضية مهمة للوقوف عند طريقة تعامل المخزن مع هذا المستجد من جهة، ومدى اندراج فقهاء وعلماء المرحلة ضمن أسئلة الهويّة الدينية المطروحة، وهو ما يسمح لنا برصد المقاربة الفكرية التي يقدمها الفقهاء والعلماء في قضايا متعلقة بحرية المعتقد والآراء الدينية بشكل عام، ومدى قدرتها على التعاطي مع الأسئلة العقدية الخطيرة والتي لها أثر مباشر على اللحمة المجتمعية والتي كانت هي المستهدفة بين مختلف الدول الغربية.
قبل معالجة حيثيات وطبيعة المذكرة التي رفعها ممثل الدولة النمساوية – الهنغارية للمؤتمرين في مدريد عام 1880 والتي تهم مسألة حرية الاعتقاد والتدين ارتأينا أن نقارب المسألة من الزاويتين الآتيتين:
– التدبير الدبلوماسي للمخزن لقضية حرية الاعتقاد والتدين خلال القرن التاسع عشر
– أجوبة الفقهاء والعلماء لسؤال حرية المعتقد والتدين بمغرب القرن التاسع عشر.
(*) عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس – فاس (جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس)


الكاتب : ذ. سمير بوزويتة (*)

  

بتاريخ : 06/08/2022