الرواية وعالم الحياة

من أهم المفاهيم الفينومينولوجية التي استفاد منها المفكر والناقد والروائي التشيكي ميلان كونديرا وحاول أن يعيد إنتاجها من جديد على ضوء قراءته للرواية العالمية الحديثة مفهوم «عالم الحياة» أو عالم المعيش» Lebenswelt)) وهو مفهوم ارتبط بمؤسس الفلسفة الظاهراتية الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل. وقد كان من أهم نقط الانطلاق في كتاب «فن الرواية» كما سنرى. إن عالم الحياة عند ادموند هوسرل هو عالم الأشياء الإنسانية الطبيعية والبسيطة التي تكون سابقة على أي تأمل عقلي وتمثل معرفي، مثل إدراك الشخص بأن له جسدا أو أنه يعيش حياة جماعية مشتركة وأن العالم موجود… إنها حقائق مباشرة مرتبطة بالتجربة البشرية وتشكل جزءا من عوالمنا الخاصة التي أصبحت مهملة مع التطور العلمي والتكنولوجي المعاصر. لقد تخلى العلم المعاصر المتسم بالنزعة الموضوعية العلمية عن هذه الحقائق وتم نسيانها وهذه أبرز مظاهر الأزمة التي تعرفها العلوم المعاصرة. من هنا يرى إدموند هوسرل بأن المهمة الآن ملقاة على عاتق الفلسفة لكي تعود إلى هذه الأشياء وإعطائها معنى جديد والانطلاق منها في أي بحث قادم في الظواهر الإنسانية . إن فكرة «عالم الحياة» أو العالم المعيش هي تطوير لفكرة القصدية في مجال الفعل حيث الوعي القصدي يترجم العودة إلى الأشياء و الانخراط في العالم والالتحام بموضوعاته بصورة منفتحة بعيدا عن كل التقابلات الديكارتية بين الباطن والظاهر، الروح والمادة، الذات والعالم، الوعي والجسد . وبذلك يصبح الإنسان منخرطا في العالم من خلال وجوده، بما في ذلك وجوده الجسدي، ويصبح جهازا متحركا من القصديات لا تنفصل فيه الذات عن الجسد والعالم(1)
من هنا يؤكد هوسرل بأن عالم الحياة هو الأفق الذاتي النسبي لكل إمكانيات تجربتنا. إنه هو عالم تجربتنا اليومية الذي نعيش فيه قبل كل موقف علمي أو نظري والذي تعطى فيه الأشياء في وضعيات ذاتية ونسبية»(2)
يتميز عالم الحياة بست خصائص لخصها الباحث والمفكر اللبناني أنطون خوري في ما يلي:
1- عالم حسي أي عالم الظهور الحسي أي أن التجربة الحسية تلعب فيه دورا بارزا.
2- عالم عفوي حيث تتسم الموضوعات المختلفة بانسيابية حية أمام الوعي العائش أيضا .
3- عالم ذاتي ونسبي أي عالم الظاهرات الذاتية التي تتكشف أمام وعينا وهو عالم نسبي أي أنه يتقوم في ارتباطه بالذات من أجل الحفاظ على معنويته وقيمته .
4- عالم عملي يعكس الأنشطة التي يقوم بها الناس في حياتهم اليومية ، والعمل كممارسة ينقسم إلى عمل حياتي يعطي معنى للوجود وعمل نظري يتلخص في البحث المتواصل عن الحقائق ، لكن عالم العيش عند هوسرل هو معطى قبلي يعد كأساس لكل ممارسة ممكنة .(3)
في كتاب «فن الرواية» يتساءل كونديرا ما الذي تريد رواية سرفانتس الكبيرة قوله؟ مستعرضا التأويلات التي قرئت بها الرواية وكلها تأويلات تنطلق من حكم أخلاقي جاهز يرى عالم الإنسان مكون فقط الخير والشر، حيث يتمنى الإنسان إدراكهما بوضوح ويكونان قابلين للتمييز بوضوح تام، مادام الإنسان يحمل بداخله الرغبة الفطرية والجامحة في الحكم قبل الفهم. على هذه الرغبة -يقول كونديرا- تأسست الأديان والإيديولوجيات. لذلك لا يمكن أن تتصالح الديانات والإيديولوجيات مع الرواية إلا إذا ترجمت في خطابها اليقيني والدوغمائي لغة النسبية والغموض الخاصة بالرواية.(4)
من جهة أخرى يرى كونديرا بأنه إذا كان سرفانتس هو مؤسس الأزمنة الحديثة، فإن نهاية إرثه قد تعني إعلان نهاية الأزمنة الحديثة. لذلك فإن الابتسامة السعيدة، التي تلعن نهاية الأزمنة الحديثة، ابتسامة تافهة. «هي تافهة، لأنه سبق لي أن رأيت موت الرواية وعايشته، موتها العنيف (بواسطة وسائل القمع والرقابة والضغط الإيديولوجي) في العالم الذي فيه قضيت جزءا كبيرا من حياتي، الذي يسمى عادة العالم الشمولي- يقصد بلدان المعسكر الشرقي-. آنئذ بدا بوضوح تام أن الرواية كانت عرضة للفناء مثلما هو عرضة للفناء غرب الأزمنة الحديثة. ومادامت الرواية، بوصفها نموذج هذا العالم الشمولي.» إن الحقيقة الشمولية تلغي النسبية والشك والسؤال مادامت تقوم على حقيقة واحدة لايمكن مناقشتها أو الاعتراض عليها، في حين أن عالم الرواية ملتبس ونسبي تماما ، من هنا فنحن أمام عالمين مختلفين بل لايمكن نهائيا أن يتوافقا بينهما. الرواية إذن لا تختفي بل إن تاريخها هو الذي يتوقف. ولا يبقى بعد هذا التاريخ إلا زمن التكرار، حيث تعيد الرواية إنتاج شكلها مفرغا من روحه. وهو موت صامت لاينتبه إليه أحد.(5)
بعد ذلك ينتقل كونديرا إلى استعراض أربعة نداءات تتميز بها الرواية الحديثة اعتبرها مثيرة لاهتمامه وهي:
نداء اللعب: يتمثل في روايتين من القرن الثامن عشر «تريسترام شاندي» للورانس سترن ورواية «جاك القدري» لدينيس ديدرو، تم بناؤهما كلعبة هائلة. وهما في نفس الوقت قمتان في الخفة لم يبلغهما أحد. هنا تقيدت الرواية بضرورة الاحتمال وبالديكور الواقعي وبالصرامة الكرونولوجية. كما تخلت الرواية عن الإمكانات المتضمنة في هذين العملين العظيمين اللذين كان بإمكانهما تأسيس تطور آخر للرواية الذي نعرفه والذي يجعلنا قادرين على أن نتصور أيضا تاريخا آخر للرواية الأوربية.
نداء الحلم: تجلى في إيقاظ الخيال الراقد للقرن التاسع عشر من قبل فرانز كافكا، الذي نجح في المزج بين الحلم والواقع وهو ما ألح السورياليون بعده دون أن ينجزوه . إن هذا الاكتشاف الهائل هو انفتاح غير منتظر يطلعنا أن الرواية هي المكان الذي فيه يمكن للخيال أن يتفجر في الحلم، وأن الرواية يمكن أن تتحرر من إلزام الاحتمال الذي يبدو لامفر منه ظاهريا.
نداء الفكر: إن إدخال الفكر السامي والمشع إلى فضاء الرواية من كل روبرت موزيل و هرمان بروخ إلى مشهد الرواية لم يكن بهدف تحويل الرواية إلى فلسفة أو مجالا للتفكير الفلسفي، بل بهدف تحريك، عن طريق الحكي، كل الوسائل المعقولة واللامعقولة، السردية والتأملية، التي يمكنها أن تضيء وجود الإنسان وأن تجعل الرواية أسمى تركيب فكري.
نداء الزمن: ليس المقصود بالزمن في الرواية هو حصرها في الإشكالية البروستية –نسبة إلى مارسيل بروست- مرحلة المفارقات القصوى الروائي إلى عدم حصر مسألة الزمن في المشكل البروستية المرتبطة بالذاكرة الشخصية، بل المقصود هو الدعوة إلى توسيع هذه المسألة لتشمل الزمن الجماعي، أي زمن أوربا التي تلتفت كي تنظر إلى ماضيها، وتقوم مسارها، وتدرك تاريخها، مثل رجل عجوز يدرك بنظرة واحدة كامل حياته المنقضية. من هنا تتولد الرغبة في إدخال حقب تاريخية عديدة بدل التركيز على الحياة الفردية التي ظلت الرواية إلى الآن حبيستها. إن المجتمع الحديث يقوي ببشاعة مسألة اختزال الحياة الإنسانية إلى ظواهر جزئية، بل أصبح الاختزال ينخر حياة البشر، فالحب ينتهي إلى هيكل ذكريات هزيلة. وحياة الإنسان تختزل في وظيفته الاجتماعية، و تاريخ شعب يتم اختزاله في بضعة أحداث يتم تأويلها بطريقة مغرضة، والحياة الاجتماعية تختزل في الصراع السياسي بين قوتين كبيرتين فقط. إنها دوامة الاختزال التي أصبحت تسيطر على الحياة البشرية حتى أصبح معها «عالم الحياة» الذي تحدث عنه هوسرل، مظلما، وفي هذه الدوامة يسقط الوجود في النسيان.(6) و إذا كانت علة وجود الرواية هي الحفاظ على «عالم الحياة» مضاء دوما وحماية الإنسان من «نسيان الوجود»، فإن وجود الرواية اليوم يبقى ضروريا أكثر من أي وقت مضى.

هوامش:

1- سعيد توفيق: الخبرة الجمالية. 44/45/46/47
2- إدموند هوسرل هوسرل:أزمة العلوم الأوربية ص30)
3- .أنطون خوري :مدخل إلى الفلسفة الظاهراتية)
4- ميلان كونديرا ( فن الرواية ص 15)
5- نفس المرجع ص22
6- نفس المرجع ص 26


الكاتب : محمد مستقيم

  

بتاريخ : 25/03/2022