دروب المدينة الجديدة : كارلوطي، بوشنتوف، القريعة، ليهودي..كراج علال، واسبانيول… 29

ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …

 

لم تتوقف الدار البيضاء يوما عن الامتداد والتوسع في كل الاتجاهات، وحتى يومنا هذا، وأينما وليت وجهك لا بد أن تصادفك ورشات البناء والتعمير، فكل نقطة في هذه المدينة تجذب إليها أنظار المنعشين العقاريين الذين يتسابقون ليل نهار لالتهام كل أرض فارغة، وكل مساحة هي مشروع محتمل لتشييد عمارات أو بنايات إسمنتية باردة يتسابق لشرائها والسكن بها كل من ضاق به مسكنه العائلي، مقتنيا مسكنه الخاص به وبأسرته، يتشابه في ذلك الجميع، من قذفت به مدن أو قرى إلى فضاء الدار البيضاء الرحب أو من كان يسكن بها في منزل غير لائق أو منزل مؤجر أو مدن الصفيح، لا يهم المكان أو مدى قربه وبعده عن مقرات العمل أو المدارس أو غير ذلك من المشاكل والعراقيل، كانعدام المساحات الخضراء والأشجار، المهم هو العثور على سقف في إقامات أو تجزئات سكنية تبنى بمبادرات خاصة أو عمومية، بثمن مناسب قبل كل شيء، وهذا الأمر ليس وليد اليوم فقد انطلق منذ زمن بعيد ..منذ عهد الحماية حين بدأت المدينة القديمة للدار البيضاء تفسح المجال لظهور أحياء جديدة خصوصا أنها أصبحت عاجزة عن احتواء العدد الكبير من الوافدين إليها من جميع أنحاء البلاد ..وكانت المدينة الجديدة هي المجال الجديد لتوسعها العمراني والسكاني منذ بدايات القرن العشرين ..ففي عهد الحماية، وكما تمت الإشارة إلى ذلك في المقال السابق، شكل درب الحبوس المبني على الطراز المغربي الأصيل قطبا اجتذب سكان الدار البيضاء المسلمين ليس بسبب عددهم الذي تزايد فقط بل لأن استقرار عمال الميناء واليهود بالمدينة القديمة أدى إلى ارتفاع في أثمنة الدور وكرائها، وهو ما جعل أصحاب الدخل الضعيف يبحثون عن مكان آخر للعيش ليجدوا ضالتهم في حي الحبوس أو حي آخر قريب هو حي البلدية.
كانت «النوالات» المنتشرة على جنبات السور وفي الأراضي المحيطة بالمدينة القديمة ظاهرة سكنية بامتياز، فقد وجد فيها الوافدون والمهاجرون ضالتهم في دلك الوقت، خصوصا أن الفقر كان منتشرا بينهم بشكل كبير، لكن هذه «النوالات» و»الأكواخ» ستبدأ سلطات الحماية في منعها خلال بعض الحقب، وفي المدار البلدي، رغم وجود بعض التساهل في الأوقات العادية ..لكن في سنة 1932 وفي ثاني يناير، سيمنع قرار بلدي نهائيا السكنى ب»النوالات» بما في ذلك السكنى بالمدار البلدي، وجاء ذلك حسب كتابات أندري آدم، بسبب حمى المستنقعات.
هذا التشريع الجديد سيمس على الخصوص سكان حي دور الصفيح كرلوطي « Carrières Carlotti»، الذي كان يتواجد بجوار درب يحمل نفس الاسم، هذا الأخير ينتمي للمدينة الجديدة، وتم بناؤه على أرض مساحتها 11هكتارا تقع جنوبها، بهدف إسكان هؤلاء السكان، غير أن هذه التجزئة لن تجد صدى كبيرا لديهم ف»أغلبية المبعدين نقلوا أكواخهم بعيدا، وأقرب ما يكون من الجدار البلدي» ب. هوبير.
أمام هذا الوضع ستقرر السلطات البلدية بالدار البيضاء أن تبني حيا يستجيب للذوق المغربي وتأجيره بسومة بسيطة، حي ستتم أشغاله بين سنتي 1936 و1937، وسيتكون من 648 مسكنا و41 دكانا موزعة على أربع مجموعات أو دروب، وسيكون لكل مجموعة مهندسه الخاص ومقاوله، دروب سيسميها السكان بأسماء المقاولين الذين بنوها.. «غريغوار، بايل، ريفولي، وشايون»، لكن الاسم الأول سينتشر أكثر وسينطقه السكان «غريغوان» ليعم الحي كله، غير أن درب غريغوان الذي صممه المهندس بريان وهو أحد مصممي درب الحبوس، سيلقى نجاحا أكبر بين الدروب الأخرى. هذه الدروب كلها ستسمى في النهاية درب القريعة ربما بسبب السوق المتجول الذي يقام بجانبها الشرقي.
وحسب ما جاء في كتاب «الدار البيضاء» فإن درب القريعة ضم ساكنة بسيطة ولكنها كانت تتمتع بعمل قار وموارد مضمونة رغم أن هذا الدرب في بدايته لم يلق النجاح المتوخى منه لأن الناس وجدوا أنه بعيد عن مقرات عملهم .
بالإضافة إلى المبادرات العمومية لإنشاء المساكن والأحياء بالمدينة الجديدة كانت هناك مبادرات خاصة التي لعبت دورها أيضا في هذا المجال، فأمام الطلب المتزايد على المساكن سيبادر أصحاب الأراضي إلى بناء تجزئات سكنية ستتكاثر كالفطر بين سنتي 1920و1941، وستسمى الدروب التي أقيمت على هذه الأراضي بأسماء الأوروبيين الذين بنوها أو بأسماء المغاربة أو الاسم الذي اختاره المجزئ، وكانت أقدم تجزئة هي درب كارلوطي الذي أنشئ سنة 1920 تحت مسمى ،»تجزئة الشركة العقارية للمدينة الجديدة «، بين السكة الحديدية خط مراكش وطريق مديونة ..آنذاك تم بيع قطع أرضية واستؤجر البعض الآخر حسب نظام الزينة بسومة شهرية قدرها 0.50 فرنك للمتر . وبنيت أولى المنازل في سنة 1924، وكان التجار الفاسيون أكثر من اقتنى أو بنى هذه الأراضي، وتبعا لذلك أصبحوا من بين المالكين الأكثر أهمية لهذا الحي خصوصا بعد الحرب ..
درب «مارتيني» المسمى من قبل المغاربة بدرب اليهودي، الذي يمتد في اتجاه الطول نحو الجنوب غرب درب الحبوس ودرب البلدية على امتداد شارع إدريس الأول، شارع بونابارت سابقا، أنشئ انطلاقا من تجزئتين، الأولى أقيمت سنة 1928، ولم يتم إنشاء الثانية الموجودة على جانب زنقة أبو مدين الغوثي التي كانت ملكا لوكالة «لورين المغربية» إلا سنة 1939، هذه الأرض بيعت في كلتا التجزئتين ولم تستأجر للزينة.
من الجهة الجنوبية لدرب «مارتيني» ودرب البلدية يوجد درب «اسبانيول» ويعتبر من أهم دروب المدينة الجديدة والأكثر كثافة سكانية، ويمتد حتى شارع الفداء (شارع السويس سابقا)..من الغرب يحده كاريان كرلوطي ..أقيم هذا الحي حسب اندري ادم على ثماني تجزئات كانت كلها إلا واحدة في ملكية الأوروبيين، التجزئة الأولى بنيت سنة 1928 وكان يملكها إسباني ومن هنا جاءت تسمية الدرب، أما باقي التجزئات فأنشئت إلى حدود سنة 1941، وحتى هذا الدرب أو التجزئات لم يتم فيه اللجوء إلى الزينة بل بيعت كلها شأنها شأن الأراضي التي أقيم عليها درب «مارتيني».
أحياء كثيرة أخرى بدأت في الظهور مثل درب الشرفاء الذي أنشئ في سنة 1930، ويتواجد هو أيضا جنوب شارع الفداء بجزئه الشرقي على جانب طريق مديونة..ثم درب «الطلبة» سنة 1932، «هذا الأخير الذي كان الوحيد من بين الدروب الأخرى الذي مسته الحرب، ففي ليلة 30/31 دجنبر 1942، وخلال قصف الطائرات الألمانية لمدينة البيضاء سقطت عليه قنبلتان فخلفتا 110 ضحية»، أندري آدم.
حي آخر لا بد من ذكره في هذه الورقة الخاصة بدروب المدينة الجديدة ويتعلق الأمر بدرب بوشنتوف الذي يعتبر من الأحياء البارزة والمشهورة بالدار البيضاء ويوجد بالجنوب الغربي من درب «اسبانيول»، وأقيم هذا الحي على جزء من تجزئات درب اسبانيول لكن الجزء الآخر كان يملكه شخص اسمه «ليسيا» الذي جزأه سنة1936، وأراد أن يطلق عليه اسمه لكن المغاربة سموه درب بوشنتوف، أما النصيب الثالث فكان يملكه شخص يسمى السيد موريس الذي أقام حيا سنة 1939 وأسماه درب «باهية» غير أن السكان أطلقوا عليه اسم درب «موري» ..درب بوشنتوف باع ليسيا قطعه الأرضية أما موري فقد استأجر أرضه حسب الزينة بدرهم في الشهر لكل متر مربع.
إن كل هذه الأحياء التي تؤثث فضاءات المدينة الجديدة والتي تضم ساكنة مهمة، تمتد كلها غرب طريق مديونة لكن هناك درب آخر شهير سينشأ بالجهة الشرقية على طريق مديونة، ويتعلق الأمر بكاراج علال، الذائع الصيت في كل التراب الوطني ..فمن من المغاربة قديما لم يمتط منه حافلة تنقله إلى وجهته سواء كانت قريبة أوبعيدة، فقد كان هذا الكاراج نقطة تنطلق منها الحافلات في اتجاه الشاوية لكنه سيصبح مركز حي جديد سيكنه المغاربة وهو درب مبروكة، وكان يطلق عليه كذلك اسم درب «بن دادوس» غير أن تسمية كاراج علال غلبت عليه أكثر..لكن هذا الحي الصغير لم يكتب له أن يمتد أو يتوسع بشكل أكبر بسبب محاصرته بدرب «لا جيروند» وامتداده نحو الجنوب الشرقي ..وستنشأ أحياء أخرى أبعد نحو الجنوب، جنوب زنقة احمد الصباغ العقيد ما نيفي سابقا، بين طريق مديونة وطريق اولاد زيان، منها درب الكبير، وهو حي كان أصله تجزئتين أنشئتا سنتي 1935 و1936 ويعود اسمه إلى اسم أحد المالكين …ثم درب الفاسي وأقيم على تجزئة أنشئت سنة 1937 من طرف الشركة العقارية والمالية «أطلس» ثم درب العفو الذي أنشئ انطلاقا من سنة 1939 من قبل «شركة التجزئات والمقاولات العقارية امتداد المدينة الحديدة».
لقد كانت كل هذه الأحياء وحتى سنة 1945 وحتى بداية الخمسينيات منحصرة بين مسلك «لي كريت» والمغرس البلدي، ولم تتجاوز هذه المنطقة، يفصل بينها وبين الحي الجديد أي عين الشق ألف متر من الأراضي الفارغة التي غلبت عليها حقول الشعير وقطعان الماشية التي ترعى بها، وكانت نفس المساحة تفصلها عن الجهة الغربية بعيدا عن دور الصفيح حي بن مسيك، والذي سيكون في المستقبل نواة سيدي عثمان، ومن الناحية الغربية كانت البنايات بعيدة جدا عن حديقة النباتات وعن شارع 2 مارس بيير سيموني سابقا، غير أن الازدياد العمراني لم يتوقف مما دفع سلطات إلى إعداد منطقة تمتد من خلالها المدينة الحديدة في اتجاه الجنوب وستربطها في المستقبل بعين الشق وسيدي عثمان، وستكون هي الامتداد الجنوبي للمدينة الجديدة، هذه الأخيرة التي سيعتبرها ايكوشار ميشيل في كتابه عن الدار البيضاء، لا ترقى إلى مستوى المدن الجديدة التي تحترم فيها التصاميم والأبنية: «المدينة الجديدة هي عبارة عن مجموعة ضخمة من الأحياء ذات البناء المشوه الخالية من الفضاءات الفارغة ومن الأشجار ومن النظارة، تبدو الدور التي تلتصق ببعضها البعض والتي لا تتعدى طابقا أو طابقين وكأن بناءها لم ينته بعد .. «.
لم تكن هذه الأحياء تتوفر على مظاهر المدينة باستثناء حي الحبوس الذي يعود أصله إلى بروست الذي انقطع عن العمل سنة 1923..,لقد أوى إليها السكان بالفعل ولكنها لم تستفد من هندسة حضرية وتكونت من تجزئات متلاصقة انعدمت فيها المناطق الخضراء ولم تكن هناك ساحات إلا في ما ندر أو أن مساحتها لا تعدو أن تكون زقاقا يتسع بضعة أمتار فقط…


الكاتب : خديجة مشتري

  

بتاريخ : 16/04/2024