قصة قصيرة … رسالة زفزاف

منذ سنوات وأنا أسير في شوارعك، مدينتك حزينة وغامضة، وموغلة في الجنون، يمر بجانبها نهر يجري دهشة، وتتوزع عبر تضاريسها أشجار الاستفهام، تخترقها عواصف لا تهدأ، وتكسو سماءها سحب شاسعة، وتحلق تحت ظلالها طيور تغني في الليل والنهار.
ولجتُ مدينتك، يا زفزاف، في صباح شارد، يلبس مطرا أزرق، ويعزف على ناي الغربة، ألحان الألم. سرتُ طويلا، أقرأ العناوين، وأسافر على متن الكتب، طويتُ الأزقة، وتبللتُ بمطر السؤال، ورافقتُ المجانين، ترددتُ على ميناء الحلم، لعل الفرح يرسو قبالتي، لكن المدينة قاسية، ظلت تقصف الغرباء مثلي بقنابل الجفاء. في مدينتك لم أجد مسكنا يأويني، فلذت بالشوارع الواسعة والضيقة، وظللت أسير، ففاجأني صوتك الهادئ العذب، يهطل دافئا رغم الثلوج التي تكسو القلوب، ثم تجلى وجهك الصبوح أمامي، أشرقت بابتسامة صافية، وأخذت تمسح لحيتك وتردد: «لا تأبه ببرودة الدروب، ولا بجفاء المدينة، اركب صهوة التحدي، وشيد مسكنا خاصا بك..!».
قلبت صفحات الليالي، وتصفحت صور النهارات، وطويتُ كتب الفصول، همت في غموض السطور، وتهتُ بين فيافي القلق، فالتقيتُ امرأة تلبس الجنون، ترافقنا، وواصلنا المسير جنبا إلى جنب..
أتعلم، يا زفزاف، أن مدينتك التي تركتها نائمة على سرير الأحزان، استيقظت ذات يوم صيفي غريب، اختار أن يلبس معطفا مزركشا بالشمس والمطر، ثم انطلق يتجول في شوارع القلوب وحيدا. تجملت المدينة، وقصدت الميناء، سألها الأهل، أجابت: اليوم ترسو سفينة العودة، وعلى متنها كل البنات والأبناء..!
سار الجميع خلفها، الرياح عزفت، والأشجار رقصت، والأمطار غنت، امتد المسير طويلا، وتجاوز الغابة، والمقبرة، ومختلف المدارس، والنهر الذي يجري وحيدا، ثم أطل الميناء، يستعد لمعانقة السفينة، تعالت أصوات البهجة، وحلقت الزغاريد في السماء.
نعم، يا زفزاف، خرجت مدينتك عن بكرة أبيها، وقصدت الميناء للاحتفاء برجوع الأبناء، وإذ أخبرتني المرأة التي رافقتني في الطريق بعودتك ضمن العائدين، طرتُ فرحا وحزنا، أفرحني الإياب، وأحزنتني حال الشوارع. خيم علي جو غامض، ومتقلب الأحوال، والتحقت بالملتحقين، ملأنا جنبات الميناء منتظرين بزوغ السفينة. حزينة بدت السماء، كان كل الناس فرحين، وحدي شاهدت الحزن يرقص على منصة السحاب، لم أخبر أحدا، وتركت القلوب تسعد، والأعناق تشرئب، والمدينة تخلع معطف الحزن، وترتدي فستان العيد..
وبينما كنا نسبح في مياه الأحلام، ويرسم كل منا شكلا معينا للعودة، أطلت السفينة، فهاجت الجموع تهتف فرحا، وتلوح بالأيدي..
لا، يا زفزاف، لم أر قط المدينة جميلة كما كانت ذلك الصباح، ولا جذلى كما بدت وأهلها على ضفة الميناء. لم أكن أعلم أنها تتلهف على عودة البنات والأبناء، وهي التي ظللنا نصفها بالقاسية التي تشهر قسوتها في وجه الأبناء والغرباء على حد سواء.
رأيتها تضحك، ودموع الفرح جارية على الخدود، تضم بالأحضان الأهل وحتى الغرباء، تسقي العطشى بماء الفرح، وترسم على الوجوه أعيادا وأعراسا، وبينما الجميع على نفس الحال، رست السفينة، ثم انفتحت أبوابها، وعوض أن ينزل الأبناء والبنات، نزلت صناديق مملوءة برسائل يعلنون فيها رفضهم للعودة..!
صعق الجميع، وتبخر الفرح، وولولت المدينة، ثم خلعت فستان العيد، ولبست أحزانها من جديد، ودفعت الأهل والغرباء إلى منطقة الجفاء، ثم غادرت تبكي..
كلٌّ تسلم رسالة، ومضى يقرأ..، حتى المرأة التي رافقتني في الطريق، تسلمت رسالة، وتركتني، غادر الجميع، وبقيتُ وحيدا، أفرغت الصناديق إلا من رسالة واحدة، اقتربت، فقرأت على ظهرها «رسالة زفزاف»، تسلمتها على عجل، خبأتها في صدري، غادرت الميناء بسرعة، مسحت الشوارع والأزقة، والساحات..، وولجت كهفا في قلب الغابة، وأخذت أقرأ…
رسالتك، يا زفزاف، فصول طويلة ومختلفة على سطورها تنوح الأحزان الكثيرة، وتزغرد قلة من الأفراح، وتقف شجرة، نصفها يابس، ونصفها مخضر، تحط على النصف اليابس طيور تبكي، وعلى النصف المخضر أخرى تضحك، وتمتد على مساحات السطور دروب غارقة في الظلام، تملأها شخوص منكسرة، ويتطاير منها دخان أحلام محترقة..
حين تسلمت رسالتك يا زفزاف، انفتحت أمامي نوافذ، فشاهدت اللقاءات، في أولاها كنت تمشي وحيدا ببطء على رصيف شارع مدينتك الكبير، كنت نحيلا وأنيقا، تلبس لباسا أسود، وتدخن بشراهة، وفي ثانيها كنت على منصة القراءة. أنت تقرأ، وشخوصك تنوح، وترقص، تغرق في القبور، تثرثر في الحانات وتبيع الجرائد والورود قرب الميناء..، وفي ثالثها جلسنا متقابليْن، أنت تسأل، وأنا أعجز عن الجواب، بدت أسئلتك امتحانات، فشلت فيها، وكنتُ من الراسبين.
ظللت على صهوة رسالتك حتى بلغني أن المدينة تدعو جميع الذين تسلموا الرسائل من سفينة المغادرين، إلى اجتماع طارئ في الساحة الكبرى على ساعة زرقاء محايدة، تقع بين الليل والنهار. انتظرتُ حلول الموعد، والتحقتُ كما التحق الجميع، جئنا كلنا نحمل الرسائل، ووقفنا ننتظر بزوغ وجه المدينة.
تلألأ المطر على صفحات الإسفلت، وصعدت الريح منصة الساحة لابسة فستانا أبيض، وأخذت ترقص..، فيما ولج المتجمهرون فصل صمت بارد، لم يخرجوا منه إلا بعد أن أشرقت المدينة، وقررت توزيع الميراث الذي خلفه المغادرون على حاملي الرسائل، معللة قرارها هذا، بأن الممتلكات التي تركها المهاجرون خلفهم، ورفضوا العودة إليها، لا يمكن أن تظل بلا أصحاب، مضيفة أن كل شخص يحمل رسالة، يرث ما خلفه مُرسِلها. سادت الوجوه سحب مزركشة بالخوف والأمل، ثم اصطف الناس، على شكل طوابير، حاملين الرسائل. وبدأت عملية توزيع ممتلكات الراحلين..
توقف المطر، وانسحبت الريح، وتبخرت الساعة المحايدة، و أطل النهار، واختلطت الألوان، وتشابكت الأصوات، وتداخلت الفصول، وهدمت الحدود، وهطلت الدموع، وأشرقت البسمات، وهبت الزفرات، وحلقت الزغاريد، وفُتحت الكتب، وقُرئت السطور، وسلمت الرسائل، وسالت الأقلام، واخضرت السحب، وذبلت المياه، وبزغت الأعياد، واشتعلت الخيبات، وتدفقت الأفراح، وناحت الأشجار، وغنت الطيور، واختلفت الحظوظ، وتباينت الخسائر، وتعددت الأرباح، وتوالت الحلقات، وطالت الجلسات، واختلت الموازين، وتُرجمت القرارات..
أتعلم، يا زفزاف، كم كانت الطوابير طويلة..! وكم كانت ممتلكات المغادرين الرافضين متنوعة..! وكم كانت الرسائل كثيرة..! لكن المدينة، كانت عادلة هذه المرة..! فورث كلٌّ منا ما حملته رسالته..، هناك من ورث الكثير، وهناك من ورث القليل، وهناك من ورث الأقل..، أما أنا، الذي اخترتُ رسالتك، يا زفزاف، فلم أرث غير تيه وسهر وقسط يسير من المداد، وكنتُ أكبر الخاسرين..! رسالة زفزاف رسالة زفزاف


الكاتب : محمد الشايب

  

بتاريخ : 10/12/2021