مسارات من حياة الشعيبية طلال.. 7- خادمة بالبيوت

لعل الكتابة عن سيرة فنانة ذات ريادة زمنية وريادة فنية،اختلف الناس في أمرها، لشخصها وشخصيتها وإنجازاتها التي ذاع صيتها في الآفاق، حتى أصبحت المعارض العامة الدولية تخطب ودها وتتمنى أن تحتضن لوحاتها العجيبة ، تقتضي اعتماد مصادر ومراجع وطنية أو دولية موثوق بها، غير أنه، للأمانة، لا نتوفر سوى على مصدر واحد ووحيد غير مستقل وغير محايد، ألا وهو ابنها الفنان الحسين طلال، الذي لا يقدم إلا ما يلوكه مرارا وتكرارا عن سيرة الشعيبية لوسائل الإعلام أو بعض الباحثين، من غير إضافات مميزة أو إضاءات مثيرة تسعف في الوقوف على هويتها، منجزها التشكيلي وخصوصياتها الجمالية وإسهاماتها في الحركة التشكيلية العالمية.
سنحاول في هاته الحلقات تسليط الضوء-قدر الإمكان- على مسار الشعيبية الذاكرة الفردية، الذاكرة الجمعية ترحما عليها، واعترافا بأياديها البيضاء في سبيل جعل راية المغرب خفاقة في المحافل العالمية، وإسهاماتها في إثراء المكتبة الفنية الوطنية والدولية.

 

يأبى القدر ألاّ يُتِمّ على الشعيبية “سعادتها”، فما كادت تنعم بولادة طفلها بعد حَوْل، حتى اختطف الموت زوجها في حادثة سير على حين غرة، وتركها تواجه مصيرها في مدينة الدار البيضاء /الغول/ المجهول.
وقفت الشعيبية مشدوهة، تتجرع كأس مرارة من الحسرة والأسف، وهي تودع زوجها الوداع الأخير من دون تقبيل جبينه. فقد توفاه الله..غُسّل المسكين وكُفن وصُلّي عليه. وهي في كل هاته الأحوال محرومة من النظر إليه، أو مشايعته حتى مثواه الأخير، اللهم إلا من الدعاء له بالمسامحة وأن يتغمده لله برحمته الواسعة. تستعرض طيلة أيام الحداد عليه نظرات الشفقة والعطف وحسن المعاشرة والرقة المنبعثة من عينيه السمراوين وقلبه الكبير كلما كان يجود عليها ببعض من وقته. كان حريصا أن تسْعد معه، أن يعوّضها طفولتها التي ضاعت منها. كانت القفة اليومية لا تخلو من فاكهة وخضر متنوعة ولحم وخبز وتوابل وقطع من الحلوى لأنها تحبها كثيرا، وكان أشد ما يحرص عليه: الصلاة. وكان يامرها بأدائها في وقتها.
مات زوج الشعيبية، فترمّلت وهي صغيرة، وجاء الولد، ويستمر النسل، وتستمر الحياة برغم الحزن الساكن فيها ليل نهار. ولاتملك المسكينة إلا أن ترفع عينيها إلى السماء عسى أن يفرّج الله كربتها.
شمرت الشعيبية على ساعديها لتواجه الزمن بكل ما أوتيت من قوة واستعداد وكبرياء وعزة نفس.
اضطرت الشعيبية أن تشتغل بالبيوت الشعبية كخادمة على مضض. كان مسعاها أن تأخذ أجرتها بكدها وعرق جبينها، لتصد الفقر المدقع وتربي ابنها أحسن تربية. ولكن العمل بالبيوت الفقيرة كان شاقا للغاية، فالعجلة لا تتوقف من الصباح إلى المساء سوى نحو ساعة لتناول وجبة الغذاء، وأخذ قسط من الراحة..لاستجماع الأنفاس واستئناف نفض الملاحف، وغسل الأواني والصحون وتصبين الثياب، والأغطية و”تشميسها”، والكنس، وتنقية القطاني والقمح وغربلته.. وعجن الخبز.. والنسيج والتطريز، في جو من التوتر والتوبيخ والتسلط والاستغلال البشع واستنزاف الجهد، ومع ذلك تستكثر ربات البيوت عليها وعلى مثيلاتها أجرتهن عند متم الخدمة مساء.
ويشاء الحظ أن يحالف الشعيبية في الخدمة ببيوت ميسورة لدى الفرنسيين،لا تقبل بالخادمة إلا تحت شروط معينة، كأن تكون أمينة ومتفانية ولا تسأل ولاتتنصت ولاتتدخل فيما لايعنيها ولاتفشي أسرار البيت، وفوق هذا تتمتع بالحذق في عملها.
ولأن بين الفقر واليسر تتحدد العقليات وبالتالي السلوكيات، فإن الشعيبية، قد شكل انتقالها إلى البيوت الميسورة الفرنسية طفرة نوعية في حياتها تختلف تماما عن عملها بالبيوت الشعبية، إذ شعرت بإنسيتها وآدميتها وبأوضاعها النفسية والمادية تحسنت كثيرا. بدأت ترى التصرف الجيد وتسمع الكلمة الطيبة.. تاكل طعاما مختلفا يفتح الشهية، هي من تطهوه تحت الطلب وبالوصفات المطلوبة، ومازالت تجتهد وتتفنن وتبدي براعتها حتى نُعتت بالطباخة الماهرة.
تعود الشعيبية عند المساء بنفسية مرتاحة تحمل بعض الطعام إلى ولدها، وشوقُها لملاقاته لاينضب .تُقبل عليه ببسمة عريضة وشوق وحرقة وتضمه بحرارة إلى صدرها ..تجالسه، تطعمه، تبثه ما في نفسها من طموحات وتطلعات، تحدثه عن عالم جديد وأناس آخرين.. وعن تلك اللوحات الزيتية السحرية التي تعلمت كيفية تنظيفها بعناية شديدة والتي تُقتنى بأسعار كبيرة بل وخيالية.


الكاتب : عزيز الحلاج

  

بتاريخ : 16/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *