هل بالكتابة وحدها يحيا الشعر؟ البحث عن حاملات للقصيدة

حين يحلم الشاعر، وهو الأحق بالحلم، تبتسم الحياة وتورق على جوانبها الأزاهير، يتداعى القبح، تجرفه سيول الأحرف التي تضئ الحلم، وحُلو الأمنيات، يحرسها، يقتنصها شذرات وصورا يبثها أضمومات يهبها الحياة والدفء.
حين يحلم الشاعر، وهو الأحق بالحلم، يكون في «لحظات الصحو القصوى»، يفكر في إمكانيات تلقي الشعر، في «حاملات» بكر للقصيدة، حاملات لم تصلها خيالات المبدعين، وعلى امتداد المدى يهبها أجنحة من زهر لتحلق بعيدا إلى حيث لا يصل القبح والتردي.
حين يحلم الشاعر، وهو الأحق بالحلم، وحلمه حياة للإبداع واستمرار لمعني الوجود والموجودات، يرصص للشعر فضاءات أرحب للاتساع والانتشار والذيوع الإيجابي التواصلي الذي يطور، يُزهر القصيدة، يُطرِّز بالعشق جمال الأحرف التي تُراقص الوجود لتهبه بهاء ورونقا وفسحة لأن يُعاش،ويُسرّجُ صهوة خياله يجوب عوالم الأنوار، يفتح مغاليق الأسرار وسحر الكلمات، ودهشة الأمنيات.
هل مكْتوبُ الشّعر أن يظل حبيس الدواوين والأوراق؟ هل مكتوب الشعر أن يضيء لنفسه ويسمع صدى لحنه في أركان اللقاءات المحتشمة وبين الأصدقاء فقط؟ هل قدَرُ الشّعر أن يقرأ أشعاره لنفسه؟
إذا كان الشعر، كما يقول الكاتب الروسي تارسوفسكي، «هو الوعي بالعالم»، وإذا «كان الشعر هو توسيع قدراتنا للوصول إلى إنسانيتنا»، فعلى الشعر أن يغامر، أن يخرج من الدواوين والأوراق واللقاءات الصغيرة، على الشعر أن يرفعَ صوته عاليا ليُسْمع كلماته. على الشعر، في ظل الأمية والتخلف والتراجعات والانهزامات، أن يظهر قويا صادحا يساهم في تشكيل الحياة، على الشعر أن يخرج لملاقاة الإنسان ويطرح أسئلته عليه وعلى الحياة.
وإذا كان «الشعراء هم الأشخاص الوحيدون الذين يعرفون حقيقتنا، الشعراء فقط»، كما تقول كاتبة البودكاست الأمريكية بالدوين، فلم لا يفكّر الشاعر في مساحات جديدة للنّشر والانتشار والاقتراب من المتلقي؟
لم لا يفكّر الشاعر في واجهات للعرض، تُسهم في تنويره وإعطائه فُرَصاً ليكون في الواجهة والمواجهة؟
لم لا يفكّر الشاعر، «ونحن في شتاتنا العربي الراهن، لا لغة لنا، نفكر بأكثر من لغة، ونعبر بأكثر من لغة، ونمارس أكثر من لغة، ولكن من غير أن نمتلك لغة واحدة امتلاكا حقيقيا «، في إعطاء القصيدة صوتا يوقظ الضّمائر؟
لم لا يفكر الشاعر، حين يُحاصر الشّعرُ ويصطدم بحائط منيع من الأمية، الأميات البشعة التي توسع دائرة اغترابه، وتنظر إليه كمضيعة للوقت والمداد والكلمات؟
كيف للشعر أن يحيا ويروج سليما في غياب متلقين، الأغلبية منهم تعاني تشويشا في الذوق، وهبوطا في فهم الإبداع، ومرضا مزمنا في درجة الوعي بالجمال؟
كيف للشعر أن يحيا، وأغلبنا حين يعود مريضا لا يحمل إليه ديوان شعر أو وردة أو رواية، ولكن ما يؤكل، لأن البطن عندنا «مقدس»، والشعر آخر ما نُفكر فيه، أو لا نُفكر فيه أصلا؟
كيف للشعر أن يسافر عبر أسرار الكون ينسج للعاشقين عوالم الحب والألفة لفهم خبايا الروح والوجدان والوجود والموجودات، والكوابح كثيرة تحد من انطلاقه ومغامراته؟
كيف للشعر أن يلامس أذواق الناس ويرقى بأرواحهم المشدودة إلى اليومي البليد الذي يتكرر ولا تكاد تنفلت منه، ويفضّ مكنون الحرف، ويُسرّح مسجون سحره ودهشته، ويفك أسراره ويسمو بالنفس البشرية، لتتخلص من عُزْلتها القاهرة التي تجوس خلال تجاويفها العصية عن الرقص للضوء والغناء للجمال؟
كيف له ذلك، وفهم بعضنا للثقافة لا يتجاوز حدود ما تعرضه الإذاعة والتلفزة والأسابيع الفنية والثقافية والرياضية التي تتناسل تناسل الفطر في مستنقع بارد؟ كيف للشعر أن يخرج إلينا مقتحما، في بهاء، خلواتنا وأشباه الشعراء يسودون وجهه بدواوين تسيج سر الحروف وتقتل فيها وهج المعاني.؟
الشعر محبّة، قُربٌ من الأسرار العلوية.. الشعر هبة الروح وسكونٌ إلى حمى الجمال، إذ «وحده الشّعر يمكنه كسْر الغرف المغلقة للإلهام، إرجاع المناطق المخدّرة إلى الشّعور، وإعادة شحن الرّغبة». (كما تقول الشاعرة الأمريكية أدريا بيتش).
الشعر في حاجة إلى بيت يحمي ظهره، إلى يوم أو أيام وطنية – لا تنافق – تعيد له توهجه وأسراره بعيدا عن المناسباتية المقيتة، الشعر في حاجة إلى شعراء يكتحلون بالجمال لاحتضان أسرار الحلم.
الشعر في حاجة إلى أن نحارب بشراسة، لا أن نمحو فقط الأمية / الأميات التي تسكن أرجاء جغرافية الوطن، أن يقف صامداً في وجه العواصف التي تتقلب صورها بين اللحظة واللحظة.
الشعر في حاجة إلى أن يغامر بذكاء، ويقتحم بقوة الصّحافة والإذاعات ووسائل الاتصال ودور الشباب والمؤسسات التعليمية والنوادي والجمعيات الثقافية، والمقاهي وكل فضاءٍ محتضنٍ للتجمعات الشبابية.
الشعر في حاجة إلى شعراء لا ينتظرون إقبال المتلقي، بل يبحثون عنه داخل التجمعات وخلال المهرجانات، ويخرجون من دواوينهم الأنيقة، ويُسمعون صوته جهرا للحياة والأحياء.
الشعر في حاجة إلى من يفضح أشباه الشعراء الذين يُعَمّقون اغترابه.
وهل « بالكتابة وحدها يحيا الشعر؟» بالحلم أيضا يحيا، وبالحب يستمر فينا.
استمرار تألق الشعر مسؤولية الشعراء وحدهم وليست مسؤولية هذه الجهة أو تلك، الشعر إرث الشعراء الذي عليهم أن يحفظوه نقيا طاهرا صافيا من كل ذرة تفسده، ومن كل نفَسٍ تحيله قُبحا مُنفّرا للنفس والروح.إنّه «ضمير العالم» الحيّ، قَدَر اللغة الحالمة، انه الحياة في أسمى معانيها، فإن ضاع أو ضعف أو طاف به طائف لا يفيه حقه، فعلى الدنيا والشعراء السلام.


الكاتب : ذ.عبد المطلب عبد الهادي

  

بتاريخ : 06/02/2024