وقت مستقطع من الحرب -44- عائشة بلحاج: هذه الحرب لن تقتلني

الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..

 

في الوقت التي تنشغل فيه بأمور الحياة، مثل فأر حسن التربية؛ تبني وتُنجب وتركض لتعيش ويعيش غيرك. هناك من يصنع ما يقتلكَ بلا هوادة، ويبيعه بأسعار خيالية، كأنّه بالفعل يبيع حياتك، وقد يكون الثمن دولاراً للرّصاصة لا غير، أو صاروخاً مكتمل القوى لكن بمواد معاد تدويرها لينزل السّعر أكثر. فيصير الموت أرخص من الحياة. فيما يشترى آخرون الأسلحة فرحاً، كأنّهم يحتفلون بموتك القريب أنت، والآلاف أو الملايين من أمثالك.
ألست تعيش في عالمٍ تتبادل فيه الدول كلّها صناعة وشراء آلات القتل؟ من ستقتل إذن؟ آخرين مثلك بالطبع، وأنتَ شخصيّاً بلحمك وأحلامك. قد تنامُ وفي ذهنك بطيخ أصفر، ظانّاً أنّ الأسلحة كما يٌقال وُجدت من أجل تحقيق توازن القوى، ولحمايتك. تفيق في أحد الأيام وتجدها تقصف بيتك، وتُشتِّت بطيخ رأسك على الجدران. لكنّك لست بريئاً تماماً، فقبل ذلك، كانت تقصف بيت غيرك، وكنتَ تشعر بالأسى، لكنّك تواصل حياتك العادية المليئة بالهواجس والتوافه من الأمور، حامداً الله على أنك لست مكانهم. الآن، وأنت تحت القصف تفكّر في الذين يشعرون بالأسى تجاهك، ولكنهم يضحكون ويمرحون في بيوتهم الآمنة، وفي الصّحافيين الذين يتحدّثون عنك كرقم، والأرقام ليس لها روح؛ أنتَ رقم ضمن إحصائيات اللّاجئين أو القتلى، وبموتك مع أمثالك من تعساء الحرب، ستكونون وقود الحرب الذي لا ينضب، وأرقامها التي لن تكون سوى ذاكرة تحفظها الأجيال القادمة. أما إذا كنت جريحاً فأنت أقلّ من رقم، إلى أن تموت، أو تُكتب لك حياة جديدة وتنضمّ إلى اللاجئين.
الحرب أن يعيش الناس حولك حياتهم، بينما حياتك تُسرق منك. كأنّك دخلت كابوساً وعلقتَ فيه. خسرتَ بيتك، وعملك وروتينك الذي كنت تشكو منه. وبدل طموحاتك سيصير مُنى حياتك أن تجد طعاماً وسقفاً يأويك، بينما التهمت الحرب حياتك السّابقة كلها. بل حتى الذين تحبّهم يصبحون في خطر، وقد تفرّ تاركاً إيّاهم في دائرته، لتنجو أنت على الأقل. فالحرب أكبر وحش على الأرض؛ تقتل لأجل القتل، وجرائمها عمياء، لا تفرّق بين الأطفال والنساء والرجال والشيوخ، كلهم سواء تحت رحمة الآلات الحربيّة التي صُنعت من أجل القتل وحده. بعد وقت طويل أو قصير تنتهي الحرب. وقد فقدتَ للأبد حياتك السابقة- هذا إذا نجوت-، وعليك أن تجد طريقك في الحياة مجدداً، كأنّ مرة واحدة لا تكفي. وبدل حياة اللّجوء المعذبة، التي أفقدتك الكثير من إنسانيتك السّابقة ومن صحتك النفسية، عليك أن تبحث عن بيتٍ وعملٍ وطعامٍ وسط الخراب الذي دمّر كل شيء، بما فيهم أنت. وفقط الجيل الذي بعدك قد يستطيع مواصلة حياته، أما أنت فأثرٌ جانبي للحرب لا غير.
بوجودك داخل الحرب، رغم مأساتك، يمكن أن تكون كتابتك حيّة؛ لأنّ من عايش المعارك وعانى من آثارها أجدر بأن يكتب عنها، أما أولئك الذين يشاهدونها على شاشات القنوات، ويقرؤون عنها كتباً وروايات مثلنا، فنحن محضُ هلوسات أمامهم: “لا أريد أن أكتب المزيد عن الحرب… عندما أنهيتُ كتاب “ليس للحرب وجه أنثوي”، بقيت فترة طويلة لا أستطيع أن أرى الدّم ينزف من فم طفل لدى إصابته بجرح بسيط. لدى كلّ إنسان احتياطي من القدرة على تحمّل الألم؛ الجسدي أو النفسي، لكنّه نفد لدي منذ وقت طويل. فكنتُ أكاد أجنّ حين أسمعُ عويل قطة دهستها سيّارة، وأُبعد ناظري عن دودة أرضية مسحوقة، أو ضفدعة يابسة في الطريق.” هكذا يشعر من عايش الحرب، وآثارها على البشر.
وهو ما كتبته سفيتلانا أليكسيفيتش في “فتيان الزنك”. شارحة معاناة كاتبة تفرّغت لوصف بشاعة الحرب، حتى بعد نهايتها بفترة طويلة. هي الحائزة على نوبل لكتابتها تقارير رهيبة عن الحرب، وشهادات مرعبة عن جنودها، وهم أيضاً وقود الحرب، الذي لا ينضب، في كتب متعدّدة؛ منها “فتيان الزنك”، و”ليس للحرب وجه أنثوي”، و”صلاة تشورنبل”، و”آخر الشهود”. ولم يمر ذلك الاختيار من دون أن يترك آثاراً نفسيّة مدمّرة لهذا الجهد الخارق لتسجيل الحرب، ليس بالمقياس السياسي أو العسكري، أو غيرهما، بل بمقياس الدّمار النّفسي لمن عاد من الحرب تحت صفة “ناجٍ”. وهل ينجو أحدٌ من الحرب فعلاً؟


الكاتب : إعداد: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 28/05/2022