وقت مستقطع من الحرب -51- مصطفى الكليتي: كفى من زراعــة الألغام نريد أزهارا

الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..

 

لم يشف العالم ـ بعد ـ من تبعات كورونا وانعكاستها الوخيمة حتى دقت طبول حرب أعلنتها روسيا ضد شقيتها الصغرى أوكرانيا لتردها لبيت الطاعة ، وهي حرب في أقصى معانيها حرب أهلية بخلفيات استراتيجية واقتصادية ، وإذا سمح الله ستجر إلى حرب عالمية ثالثة إن حضر حلف الناتوبكلكله .
وفي مناظرة تمت بين العالمين غداة انتهاء الحرب العالمية : ألبيرت أنشتاين الفيزيائي الشهير والمحلل النفسي سيغموند فرويد صرح أنشتاين منبها « إن كانت هناك حرب عالمية ثالثة ، فالحرب العالمية الرابعة ستكون بالعصي والحجارة « ، مادامت ترسانة الأسلحة النووية الكاسحة قادرة على القضاء على الحياة وحضارة الإنسان على الأرض أو تكاد .
وتعود الإنسانية إلى بدايتها الأولى ، وقد تخلى عن التراكمات التي حققتها في بناء القيم والعهود والمواثيق الدولية المتعارف عليها .
انتهت الحرب العالمية حاصدة ملاين من القتلى والمعطوبين والضحايا ، وقبل أن يبرد أوار حرب بدأت تسخينات الحرب العالمية الثانية ، حرب تلقي بظلالها في الأفق ، وتجنب لذلك نظمت سلسلة من المناظرات والحوارات وكانت الغاية تلافي وقوع كريهة حرب ثانية .
وفي غمار ـ هذا السجال ـ يرد فرويد على أنشتاين عن مسألة حمى وطيس النقاش فيها « مايمكن عمله لحماية البشرية من لعنة الحرب ؟» في حين كان أنشتاين يبدأ كلامه بالعلاقة المترابطة بين « الحق « و» القوة « ، لكن فرويد يفضل تغيركلمة « القوة « بكلمة « العنف « يقول فرويد « إن الحق والعنف يبدوان كنقيضين ، ومع ذلك يمكن أن تبين بسهولة أن الواحدة تستدعى الأخرى ، فصراعات المصالح بين الناس ينجم عنها اللجوء إلى العنف والعنف المضاد .
من اللحظة التي دخلت فيها الأسلحة النارية بدأ التفوق العقلي ، بدل القوة العضلية من تشابك بالأيدي واستعمال أسلحة بيضاء أو حجارة وسائل بدائية تقليدية كالسيف والرمح والنبال إلى البندقية والمسدس والمدفع والدبابة والطائرة والصاروخ والغواصة وأسلحة الدمار الشامل ، كل تلك العدة في النهاية إجبار الخصم على التخلي عن طلبه وتحطيم كبريائه وغلوائه .
فهناك غريزة حفظ النوع البشري وهي حسية جنسية وهناك غريزة متأصلة في الإنسان غريزة العدوان والتدمير ، التي تهذبها المبادىء والأخلاق والأديان السماوية والوضعية والمراعاة للقيم الإنسانية والحقوقية .
لم تشذب الأعراف وماتواضع عليه الإنسان من مواثيق دولية ملزمة من بلوى النزوع إلى العدوان والحرب رغم مايعرف ـ مسبقا ـ من ويلات وتداعيات وبيلة العواقب .
يقول الماريشال ديغول الرئيس الفرنسي الأسبق : « لاتبحثوا عن أسباب الحرب في براميل البارود بل في إهراءات القمح «
روسيا وأوكرانيا توفران الخبز لموائد العالم ولاسيما بلدان الشرق الأوسط والبلدان المغاربية ، ومن المتوقع أن يمتد لهيب الحرب الأسعارويشمل ذلك المواد الأساسية للحياة اليومية كالطاقة والغذاء ويرفع ذلك من وتيرة التضخم المالي والمصرفي ، وكلما طال أمد الحرب تضاعفت الإنعكاسات السلبية على حركية الإقتصاد العالمي ، بعد الإجتياح الروسي وتأثير الحرب أمسى ملموسا على سائر الأصعدة .
فإن تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية بالغة الخطورة ، ومن مؤشراتها الدالة طفرة في أسعار الطاقة والسلع ذات الأولوية ، ولصدمة الأسعار تأثيرعلى العالم برمته ، ولاسيما البلدان الفقيرة التي يشكل الغذاء والوقود حاجة ملحة في تصريفها اليومي ويجتمع عندها غياب منتوج الغذاء والطاقة فضلا عن الخصاصة والفقر المدقع، كما أن الكثير من الدول الغنية ستتضرر نظرا لتشابك العلاقات الإقتصادية والتجارية بين مختلف دول المعمورة .
فليست للحرب عواقب مادية فحسب،فللعواقب المعنوية والنفسية سلبيات جمة ، إن المدنيين الذين أخذوا على حين غفلة وابتلوا بالحرب ، فنزحوا وهاجروا هم وصغارهم في أسوإ الظروف نازحين إلى المجهول ، ناهيك عن الإضطربات النفسية للأطفال وعدم شعورهم بالأمان والحرمان من الغذاء المتوازن والنظافة والتمدرس والتطبيب ، فتنمو في نفسياتهم الهشة بوادر العنف والخوف والعداء ، وينزعون للقلق والشعور المهول بعدم الأمان ونوبات الغضب الحادة ، فمن يحمي رجال الغد من هذه المخاطر الضارة والحرب تغرس في الأطفال بذورالحقد والكراهية وقد أرعبت هذه الحروب الشنعاء الصغار في العراق والسوريا وفلسطين واليمن وليبيا والسودان وفي أكثر من بلد إفريقي ، فإن كانت الأضرارالمادية تجبر ، فإن الأضرار نفسية تبقى جراحها وآلامها مفتوحة على مر الأيام ، وما تختزنه ذاكرة الإنسان من هموم وأحزان يصطلي بنارها على الدوام .
ستظل الحرب أكبر كارثة يصاب بها الإنسان البريئ ، فعلى المنظم الدولي والجمعيات ذات البعد الإنساني بشتى أصنافها أن تقف لتحمي الأبرياء والحد من بلواء النزاعات المسلحة ، وعلى الأطفال إن يتعلموا زراعة الأزهار لا زراعة الألغام التي يكونون أول حطام لها ، وهذا رفقا بالأرواح المسالمة الذين يسعون للعيش والفرح بحياة كريمة ، الحرب تبث في النشء عدم الثقة في المستقبل .
سلامة الإنسانية تتمثل في بث قيم التسامح والسلام في نفوس الأطفال أما إذا توغلت عوامل الكراهية والضغينة في نفوسهم ، فستكون ـ لا محالة ـ قنابل موقوتة قابلة في كل لحظة بأن تتمرد وتنفجر براكين غضب بحمم لاتبقي ولاتذر.
حينما يعجز الحوار على مائدة الحوار تدق طبول الحرب ، والحرب تعيد الإنسان إلا البداوة الحضارية وإلى صميم وحشيته ، كما لو أن جميع الأديان والأخلاقيات ومادرجت عليه الأنسانية من قوانين واعتببارت لحقوق الإنسان مجرد هراء وصيحة تتردد في واد الجهالة العميق .
إن كانت في السابق تقام من أجل مبادىء وقيم ودفاع عن الوطنية القومية والشرف والأرض ، فالحرب ـ راهنئذ ـ مصالح اقتصادية محضة تحقق الهيمنة والسطوة وهذا النازع ولاريب يقود العالم لأنفاق الهمجيوالعودة القهقرى للوراء مع غياب معايير الديمقراطية والحرية ، بغاية أن يسود القوي على الضعيف من أجل تكريس السطوة والإستبداد ، وتبقى كل المواثيق الدولية مجرد حبر على الورق وقد تصلح تلك الأوارق ـ في أحسن الأحوال ـ سفنا وهمية تغرق في الماء .


الكاتب : إعداد: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 11/06/2022