الحب الصّوفي في رواية “خضرا والمجذوب” للكاتب المغربي عبد المالك المومني

يرتبط الإبداع عموما بالمضامين التي تعكس التجربة، من حيث هي ممارسة ومعاناة، ومن حيث هي رؤية شعورية وفكرية؛ أي رؤية متكاملة قادرة على التعبير عن ذات المبدع، وقادرة، في الآن نفسه، على الانطلاق من هذه الذات لاحتضان المتلقي، وهذا كله يسهم في تحقيق رسالة التعرية والكشف على صعيد الواقع لتجاوزه وحلّ إشكالاته وتناقضاته، وعلى صعيد الفتح المستقبلي الذي لا يمكن أن يكون إلا الرّديف للتجديد والإبداع في محيط الإنسان وجميع مناحي الحياة. وفي هذا الإطار نجد الرواية المغربية تقوم على السرد الذي يشكل جوهر الأمة وسجل تاريخها؛ إذ يجد فيه المبدع ضالته فيوظفه في تجربته الإبداعية من أجل بلورة رؤيته الفلسفية بما يتوافق مع روح العصر وإشكالاته. وتماشيا مع هذا الطرح يضطلع الخطاب الروائي بأهمية كبرى نظرا لوظيفته الجمالية والاجتماعية والروحية، وكذا تنوع موضوعاته التي تستميل المتلقي لها، وتحفِّزه على التفاعل معها، تبعا لما يحدثه هذا الخطاب من أثر على عاطفة الإنسان. وعلى هذا الأساس تروم هذه الورقة البحثية الكشف عن كيفية حضور تيمة الحب الصّوفي وتعالقها مع التراث في رواية “خضرا والمجذوب”[i] للكاتب عبد المالك المومني.

خطاب الحب في “خضرا والمجذوب”

يكتسي خطاب الحب في الأدب العربي عموما مكانة متميزة، إذ يرى الإمام ابن القيم الجوزية أن الحب حرَّك “النفوس إلى أنواع الكمالات إيثارا لطلبها وتحصيلا (…) وأثار بها الهمم السامية والعَزَمَات العالية إلى أشرف غاياتها تخصيصا لها وتأهيلا، فسبحان من صرف عليها القلوب كما يشاء ولما يشاء بقدرته (…)، فجعل كل محبوب لمحبه نصيبا، مخطئا كان في محبته أو مصيبا، وجعله يحب منعَّما أو قتيلا”[2]. يتضح من هذا النص أن العرب كانت تدرك جوهر العشق وتجله، فكثرت لديها أسماؤه وصفاته. من هنا يتبين، بعمق، مفهوم الحب ونوعية الحضور الذي يمثله داخل العمل الإبداعي، إذ المرأة في صورتها الوجودية الخاصة هي تكثيف للجمال الكوني، وليست مجرد جسد يخضع لمنطق الرغبة والمتعة الجنسية.

ويتجسد حضور الحب داخل المتن المدروس”خضرا والمجذوب” في ارتباطه بالجنون وبالجذبة الصوفية. يقول السارد في قصة “ماء”: “سمعت صوتا من كل الجوانب:

لالة خضرا غبرت وبانت     شحال مّا بلات زيانت

التفت. خيل لي أنني أرى شبحا أو هكذا أحسست به، رث الثياب، مشعث الشعر، مغبر ما ظهر من جسده…”مدربل” كما يقال عندنا، خارجا من غيابة كهف من كهوف الزمن ومفازاته المليئة بالأسرار … أو آتيا من شعب من شعاب الوهم أو واد من أودية الخيال والحلم … يقتفي خطاي منذ مدة، يحل معي بك أو يلم بي متى ما زرتك أو رأيتك عيانا أو بمنام أو فكرا فيك بالوجدان. تصورته صعلوكا من صعاليك الحكاية والرواية أو :الگوال” المهلوسين، فأصبحوا يمشون ويتمتمون بكلام غريب لا يفهمه عنهم حتى القريب منهم!”[3].

إن ما يلفت الانتباه في هذا المقطع السردي هو لفظ “المدربل” الذي تصوره السارد صعلوكا من المهلوسين، ويحيل هذا اللفظ في الفكر الصوفي على المجذوب أو السائح ذي الكرامات والمناقب، المجذوب الذي تجري على لسانه مجموعة من الحِكم منثورة في عدَّة موضوعات، وأغلبها من تجارب الحياة كالرباعيات عن الشيخ عبد الرحمان المجذوب[4]. والمجاذيب، في الفكر الصوفي، قوم لهم أمور غريبة وأفعال عجيبة، ولهم تصرفات شاذة ظهروا في القرنين 9 و10 للهجرة. فكانت لهم مجالسهم وآراؤهم، ومعظمهم قد يكون مصابا بأعراض نفسية أو مرضية، أو يكون عنده استعداد خاص ليوهم الناس، ويلقي في روعِهم ما يهيمن على مشاعرهم ونفوسهم، فيجلونه ويحترمونه، بل كان جلُّ العوام البسطاء يجعلون من هؤلاء ملاذا أمينا يلوذون إليهم عند المَلمَّات، وعند عجزهم بصفة نهائية[5]. وكانوا يُطلقون عليهم أسماء متعدّدة، منها “أهل الله” و”أصحاب الحال”.

فضلا عن هذا كله، يستعمل مصطلح المجذوب رديفا لمصطلح البوهالي الذي يرتبط بالجنون كمرض عقلي، ومن ثمة، لا يعتد بكلامه، وهو في ثقافتنا المغربية يستعمل بمعنى قدحي للشخص الذي فقد صوابه. فهو الذي يحضر بدربالته كشخصية رافضة لما هو قائم في المجتمع، ساخرة مما ألفه الناس، لهذا قد يأتي كلامه غير مفهوم وشبيه بالهذيان[6]. ويتمثل هذا الهذيان والشطح الصوفي في المقطع الآتي: “خلت أميرتي زمانا أني كتبتك … كتبت حكاياتك/ حكاياتي … وما كتبت … بل كتبت، وحين قرؤوك/ قرؤؤوني …. قالوا غرقت فأغربت …. فما أنا بالفتى الذي عرفوا … قالوا- ولا أنت بالعين التي ألفوا”[7].

يوحي هذا المقطع بالرسالة التي يسعى الكاتب إلى ترسيخها في ذهن المتلقي، وهي كون الحب الصادق والوجد الطاهر العفيف يسهم في تحقيق الحلول. من هنا يتضح أن إبداع “خضرا والمجذوب” شكل سمات الذات التي تُنْتِجُ إبداعا بمواصفات جمالية متميزة، لأن التقاطع بين الواقعي والمُتَخَيَّل هو ما يميز هذا العمل الإبداعي المتميز للمبدع عبد المالك المومني. ومن ثمة، يعد حب المجذوب لخضرا الناعسة في بئر العين غاية يصبو إلى تحقيقها؛ وهذا ما جعله يكابد لواعج الاغتراب والألم، ولهذا نجد العاشق يعاني من الافتقار الذي يستعيض عنه بزمن آخر هو زمن الحب والامتلاء، بوساطة آلية الرؤية الخاصة التي توضحها الصورة التالية: “رأيت ما رأيت … امرأة كهلة فارعة الطول كصفصاف العين تشبه أمي وأختي البكر زهرة، سمراء جنية الجمال، تخرج من بئر العين الناعسة تتوجه نحوي مائسة في ثوب أخضر زيتي يخالطه شحوب كلون ورق الصفصاف على ضفتيها … تمد إلي يدا بيضاء أحس نعومتها في أعماقي، تسحبني بلطف إلى الساقية الكبرى للعين التي هبت فائضة من رقدتها … تشير إلي أن أغطس بوجههي ورأسي فلا خوف علي فإني برحم آمن منه غذاتي وحياتي”[8].

نستخلص من هذه الصورة الإفصاح عن الحب الطاهر والمشاعر الصادقة التي تفيض بها العين التي تسكنها خضرا الناعسة مما يشعر المجذوب بالأمن والأمان، إذ لا شيء ألذ ولا أحلى ولا أغلى من أن يحترق العاشق بنار الحب الذي تتغذى منه نفسه وتمنح حياته ما هي له أهل من التوازن الروحي، الذي لا تكتمل لذة الحياة إلا به. ومن هنا نستشف تداخل الحب الذي تمثله خضرا والمجذوب بالحب الروحي عند المتصوفة، وفي هذا السياق نورد قول إمامة العاشقين والمحزونين، رابعة العدوية:

أُحِبُّكَ حُبَّين: حُبَّ الهَـــــوَى              وحُــبّاً لأَنَّكَ أَهْلٌ لِذَاكَـــــــــــــــا

فَأَمَّا الَّذِي هُو حُـبُّ الهَوَى                فَشُغْلِي بِذِكْرِكَ عَـمَّــــن سِوَاكَـــا

وَأَمَّا الَّذِي أَنْتَ أَهْلٌ لَــــــــــهُ              فَلَسْتُ أَرَى الْكَونَ حَتَّى أرَاكـَـــــا

فَمَـــا الْحَمْــدُ فِي ذَا، ولَا ذَاكَ             وَلَكِـــنْ لَكَ الْحَمْـــدُ فِي ذَا، وَذَاكَا[9]

إن المثير في تجربة الحب في رواية “خضرا والمجذوب”، هو كونها تدفع الإنسان لكي يعيش أحداثها لا لكي يفهمها، ولذلك تلازم المعيش بالجنون في الحب حسب هذه التجربة الإبداعية التي يطبعها العنصر العجائبي والغرائبي. وهذا العاشق المجنون/ المجذوب شديد التعلق بخضرا الناعسة/ سيدة المكان. والحال هذه، يتغلغل المكان في أعماق الإنسان ويظل موشوما في ذاكرته وراسخا في مشاعره. وهذا كله يصوره المقطع السردي التالي:

“أميرتي … يا سيدة الماء !

ريّاي … وسناي … يا ناعسة!

“توحشتك” … أقولها بالمغربية … إنها أعمق … وأصدق

صارق نظري عن كل شاغل، أبغي التملي من عينك الحولاء الحور[10].

يتضح أن الكاتب يتوسل في إبداعه المتميز بقوالب أسلوبية موروثة عن الغزل الصوفي، ومن هذه الأساليب سمة الجنون التي وسمت المتصوفة وخلخلت قواهم الشعورية نتيجة الصراع بين مبدأ العشق ومبدأ الواقع. وتبعا لهذا كله نستطيع القول إن الخطاب السردي في رواية “خضرا والمجذوب” يشكل مادة للتأمل وحافزاً للتطور بما يمثله من قدرة على الحوار مع ثقافات الأمم الأخرى والتفاعل معها، إذ تعد اللغة ماهية الأدب، وهي القاعدة التي يقوم عليها فعل الإبداع القولي، كما تعتبر المادة الخام لكل الأنواع الأدبية، نثرية كانت أم شعرية، وعليه يكون الأدب رسالة فنية تختلف عن الرسائل اليومية التي تتم وفق اللغة العادية.

 

هوامش

[i] عبد المالك المومني، خضرا والمجذوب، في خضرة خضرا الركادة، رواية، كلمات للنشر والطباعة والتوزيع، تمارة، 2015.

[2] ابن القيم الجوزية، روضة المحبين ونزهة المشتاقين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1977، ص، 01. ورد عند عبد العزيز اعمار، خطاب العشق “حديث النساء والمتخيل الجماعي”، ضمن الخطاب حول المرأة، تنسيق: فوزية غساسي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط.1، 1997، ص. 115.

[3] عبد المالك، خضرا والمجذوب، ص. 8- 9.

[4] عبد الرحمان الملحوني، أضواء على التصوف بالمغرب، منشورات وزارة الثقافة المغربية، دار المناهل، الرباط، 2003 ، ص، 347.

[5] المرجع نفسه، ص، 215.

[6] حنان بندحمان، “تجليات الجسد في الكتابة الشعرية المغربية المعاصرة”، تنسيق عبد العزيز اعمار وآخرون، اللغة والجسد والمتخيل، منشورات مختبر اللغة والمجتمع، CNRST- URACS6، جامعة ابن طفيل، القنيطرة، 2011، ص، 26.

[7]  المرجع نفسه، ص، 26.

[8] عبد المالك، خضرا والمجذوب، ص. 22.

[9] عبد المنعم الحنفي، العابدة العاشقة رابعة العدوية “إمامة العاشقين والمحزونين”، دار الرشاد، القاهرة، ط.2، 1996، ص. 16.

[10]  عبد المالك، خضرا والمجذوب، ص. 7.


الكاتب : عز الدين المعتصم

  

بتاريخ : 28/06/2021