“مجتمع اللاَّتلامُسَ”: «سيلفي لعالم آيل للانهيار» لفرانسوا سالتييل 30 .. كورزويل، أهو مخلد لدى كوكل؟

راي
تماما كما هي الحال، بالنسبة إلى «جيمس فالهوس» أو «أوجينيا كويدا»، تعرض « كورزويل « لصدمة إثر وفاة أعز أقاربه، والده «فريدريك/Frédric»، عازف البيانو وقائد الأوركستر النمساوي، والذي لقي حتفه إثر نوبة قلبية، عن عمر يناهز 85سنة.
هذا اللقاء الأول بالموت، هو ما سيسعى «كورزويل» إلى مكافحته خلال الباقي من عمره. داخل مستودع كبير، أحتفظ بكل ما خلفه الوالد، أسطوانات، وأفلام، ورسائل، ونوتات موسيقية، وحتى بعض الفواتير، كل ذلك بهدف أن يُصَمِّمَ، يوماً، صورة رقمية رمزية “Avatar” تسمح بإعادة”إحياء» الأب الفقيد. كان «لراي»، في ما يتصل بوالده، طموح أكبر من روبوت الشابة الروسية “Replika”. كان، منذ صغره، يتطلع إلى أن يكون رجلا مهما، ويتخيل نفسه «مخترعا». في سن الخامسة عشر، أبدع برنامجا (Logiciel) للتعرف على الموضوعات الموسيقية، وخلال سنه 1970،نال شهادة خريج من معهد «ماساشوستس للتكنولوجيا /MIT”، بعد ذلك،بست سنوات، اخترع، من أجل المكفوفين، آلة القراءة «الذكية»،والتي تحمل اسمه (La Kurz Weil Reading Machine)، والقادرة على قراءة نص بصوت عال.
نشعر، بالفعل، أن لدى الشاب كورزويل الرغبة في تدارك جَوْرِ الإعاقة والمرض، ثم إنه ورث، عن أبيه، داء السكري،لأجل ذلك، وتعزيزا لنظام المناعة لديه، لم يكن يتردد في تناول ما يقارب مائتي قرص طبي يوميا. طوّر «راي»، أيضا، المادة الموسيقية العائلية، عبر إبداع سلم موسيقي لأورغات، قادر على إعادة إنتاج النغم الذي تولده الآلات الصوتية، سُلّم يحمل اسمه «أورغ كورزويل / Le synthé Kurzweil”، وهو الذي اعتمده «ستيفي واندر/ Stevie Wonder”، المغني والموسيقي الذي ولد كفيفا، والذي أصبح، في ما بعد، صديقا له. ركز «راي»، لاحقا، على مقاومة اضطرابات التركيز وعسر القراءة (Dyslexie). إنه السيد «Géotrouvetou” المدهش، الذي نال اعترافا رسميا، سنة 1999، بتلقيه، من يد الرئيس «كلينتون»، الوسام الوطني للتكنولوجيا (National Medal of Technology)، بما هو أكبر مكافأة أمريكية في مجال التكنولوجيا. أبان «كورزويل»،أيضا، عن حنكته كعالم مستقبليات (Futurologue) بإعلانه،أمام كل العالم، عن ظهور الأشياء المتصلة (ObjetsConnectés) التي يمكن أن تجيب عن أسئلتنا، وكذا عن ظهور السيارات ذاتية التحكم. يصفه “بيل كيتس»، مؤسس مايكروسوفت، كأفضل من يتوقع مستقبل الذكاء الاصطناعي. يكفي أن للرجل كلمته المسموعة، ويحظى باحترام وتقدير من قبل مقاولي وادي السيلكون الذين جعلوا منه أيقونةالإنسانية الفائقة. نشر أيضا، أفضل المبيعات كـ «التفرد قريب / The singularity is near”، سنة 2005، وسريعا، دخل طائفة أصحاب الملايين بفضل براءة اختراعاته وابتكاراته. سنة 2008، أسس صحبة الفيزيائي «بيتيرديامانديس / Perter Diamandis” جامعة التفرد التي، واقتبس هنا، تستهدف «تعليم وإلهام وتمكين القادة” “Les leaders” حتى يمارسوا التقنيات، بكيفية مطردة استجابة للتحديات الكبرى التي تعترض الإنسانية.
الفيلسوف والصحافي الفرنسي «روجي -بول دروا / Roger Pol droit”، العضو السابق في اللجنة الوطنية الاستشارية لأخلاقيات علوم الحياة، واحد من أندر الفرنسيين الذين تمكنوا من تجميع أقواله، هكذا صرح له «راي»:»اعتبر أن الوجود الإنساني لا يتوقف على جسد بيولوجي. كل هذه الميكانيزمات الصغيرة، داخل الدماغ، وداخل الخلايا، وفي عملية التوالد، هي أساس أفكارنا، ويمكننا نمذجتها على الحاسوب، مثلما يمكننا أن نفهم أنها آلات معقدة ومتداخلة بعضها مع البعض الآخر. حينما أتحدث عنإدماجنا بالآلات، تكون للناس،أحيانا، ردود أفعال سلبية، لأنهم يفكرون بالآلات التي نعرفها، اليوم، والتي تبدو باردة وغير دقيقة كفاية، أو مركبة وساذجة، في وضعٍ أقل من الكائن الإنساني. على الرغم من ذلك، وطبقا للتوسع المطرد للتكنولوجيا،فالآلات- وسنكون في حاجة لأن نعثر على كلمة جديدة – ستغدو على قدر من الدقة والمرونة كالكائنات البشرية. تلك هي بيولوجيا المستقبل! ستذهب الآلات أبعد من كل القيود، ستتخطى كفاءاتنا، وعبر إدماجها بنا، لن نتناقص! كل سنة، سيُضاعف الذكاء غير البيولوجي قوته، وحتى ربما بشكل أسرع، في حين يبقى الذكاء البيولوجي ثابتا نسبيا. الجانب غير البيولوجي، هو من ستكون له الغلبة في النهاية.
يعتقد «راي» في مجيء تقنية “كريسبر / CRISPR”،أداة طبع الجينات، والتي ستفتح عصر العلاج الجيني، (La thérapiegénique ( تتمثل هذه التقنية في إدخال الجينات داخل الخلايا لأجل العلاج)، ويراهن،أيضا، على النانوروبوتات، روبوتات صغيرة، في حجم الخلايا الدموية، ستجوب أجسادنا وأدمغتنا لتصليح الأعصاب.
بالنسبة إلى «راي»، هذه النانوروبوتات هي نفسها التي ستقيم اتصالا بين الدماغ وبين ملحق داخل وحدة سحابية /Annexedans un cloud (un nuage)”. وفقا «لراي»، ما إن يتصل ذكاؤنا بذكاء اصطناعي حتى يتزايد بملايير المرات، سيؤثر هذا التحول على التفرد، بما هو مرحلة حاسمة يغدو، داخلها، الإنسان نوعا من الوجود كلي العلم. الآن، نحن، طبعا، بعيدون عن ذلك، ثم إن التحليلات التي يستريب بشأنها العديد من العلماء، يمكن أن تبدو لكم خيالية تماما. لكن «كورزويل» بعيد عن أن يكون عالما أخرق. إنه رجل منظم يسعى وراء تحقيق هدف مثالي.
وبعد كل شيء، من كان يستطيع أن يعتقد،أثناء القرن التاسع عشر،أن كائنا إنسانيا بمقدوره، يوما،أن يمشي على سطح القمر؟ كذلك يتعين اعتبار التقدم الذي أحرزه العلم، في مجال العلاج الجيني والنانوتكنولوجيا، تقدما عملاقا، لكنه لم يحظ إلا بتغطية إعلامية ضئيلة. من الواضح،احتفظ «كورزويل»، دونما شك، بسذاجته، فتفاؤله الطفولي الحالم، كما تنبؤاته، كل ذلك، ربما، لن يرى النور أبدا. مع ذلك، وبكل تأكيد، يقتفي العديد من الفاعلين في الوادي أثر الاتجاه الذي سلكه الرجل. لا يهم مقدار الطريق المتبقي الذي يتعين اجتيازه. «فكورزويل» مرشد محترم، وعلى متن أقوى محرك بحث في العالم، ويستحق، على هذا الصعيد، كامل اهتمامنا وانتباهنا. ملياردير آخر، رؤيوي قدر ما هو حالم، استثمر، هو أيضا، في مجال الإنسانية الفائقة. إنه “إيلون ماسك /Elon Musk”.سنة 2017،أسس «ماسك»، مخترع «تيسلا»، «Tesla” السيارات الكهربائية التي يبلغ ثمن الواحدة منها 100 مليون دولار،المقاولة الناشئة «نورالانك / Neuralink” التي تسعى إلى زرع أسلاك رقيقة للغاية(في مقاس ربع شعرة) داخل الدماغ، محققة، بذلك، اتصالا بينه وبين الآلة. استوحى المقاول الأمريكي الفكرة من رواية الخيال العلمي «نيورومانس / Neuromancer” “لويليام جيبسون / William Gibson”، وكذا من مايكروسوفت الخاصة به. خرطوشة صغيرة متصلة بالدماغ، مانحة الإنسان معارف فورية كلغة جديدة. كان «ماسك» جزءا من هؤلاء الذين يخشون نوعا من «نهاية العالم» وفقا لتعبير الخبير المعلوماتي والفيلسوف الفرنسي «جون غابريال غاناشيا / Jean-Gabriel Ganascia”.وكيلا يسود الذكاء الاصطناعي ويحل، يوما ما، محل الذكاء الإنساني، راهن «ماسك» على إدماج الإنسان بالآلة. لن تكون بحوزتنا، طبقا “لماسك”سوى نسبة 10%من الحظوظ لكي نواصل البقاء أمام نوع كهذا من الذكاء الاصطناعي. تستهدف مقاولة “Neuralink”، بمستخدميها التسعين، علاج الأمراض الدماغية،والإعاقة البصرية أو السمعية، عبر عمليات الزرع، قدر ما تسعى إلى تأمين بقائنا على قيد الحياة. المستقبل، بالنسبة إلى ماسك، يتأرجح بينما ستخلفه، وراءها،الآلات فائقة الذكاء من أفول للإنسانية وبين ميلاد إنسان فائق، منقذ يرى نفسه أشبه بالخالق. لم يكف”راي كورزويل» عن أن يكون مصدر إلهام للآخرين.

ألا تموت، بعد، لكي
تفعل ماذا؟

بعيدا عن هذه الاسقاطات الثملة بالخيال العلمي، تنحصر كامل فلسفة مجتمع اللاتلامس في استعمال الرقمي لأجل إقصاء مؤشرات الزمن والدفع بالموت إلى نقطة التلاشي. الرقمي «مادة»لا تشيخ، مادة تصون وهم الأبدية. جميعنا،عشنا لحظة الحنين، هذه، حيث نعثر داخل عمق دولاب عتيق على رسائل اصفرت ذابلة جراء التقادم، أو على صور عائلية قديمة تغيرت ألوانها بفعل الزمن. في لحظة كهذه، يتولد، لدينا، الانطباع أننا نضع اليد، مجددا، على كنز دفين.إحساس أن تلمس شيئا عفا عليه الزمن، فتلك تجربة ممتعة.
الأمر ليس كذلك مع الرقمي، حيث الذكريات قصاصات مصممة، ومراوغة، تصمد لثقل السنين. الشيء نفسه بالنسبة إلى كتاباتنا الحميمية التي تظهر على صفحة”وورد بياض»، دوما،أكثر نصاعة. الصورة المطبوعة على الورق، كما يصف ذلك،بحس شعري، الفيلسوف «بيونغ-شول هان / Byung-chulhan”، تشيخ على غرار العضو الحي. عرضة للضوء والرطوبة والغبار، على عكس الصورة الرقمية التي لا تنضبط للصيرورة والشيخوخة، ولا حتى للميلاد والموت». حتى التجاعيد في السيلفي يمكن، بسهولة إزالتها عبر المصافي المتاحة، والتي هي، دوما، في متناول اليد. بعد موتنا، يمكن لبروفايلاتنا، على مواقع التواصل الاجتماعي، أن تواصل بقاءها، ويمكن لروبوتات المحادثة المصممة، طبقا لصورتنا،أن تحادث أقاربنا محتفظة باتصال وهمي. لم يعد الحضور الجسدي ضروريا طالما أن الحصة الوافرة من تبادلاتنا المعاصرة،إنما يتم إجراؤها رقميا. يصف الروائي والكاتب «أليساندروباريكو / AlescandroBarico”شعار حضارتنا بوضع دال «إنسان- لوحة مفاتيح الحاسوب– شاشة” مثلما كان قديما «إنسان – سيف –حصان». علاقة بالآلة مثيرة، يتصورها منظور الإنسانية الفائقة علاقة إدماج. ستتولى صورنا الرقمية الرمزية (Avatars)، في المستقبل، استدامة وجودنا، هوية افتراضية في سعي وراء الخلود. سيغدو الزمن مجرد معطى يمكن إيقافه، وليس غائية حياة.
أسئلة عديدة تظل عالقة، تقنية قدر ما هي فلسفية. كيف سيشغل الإنسان الفائق أيامه؟ ما القيمة التي يمكن أن يكون عليها وجود غير مادي؟ كيف يمكن الحد من التفاوتات بين أشخاص ذوي الحظوة، يمكنهم أن يكونوا”فائقين» وآخرين محكومين بوجود خاضع لضرورات بيولوجية؟
يعتقد المؤرخ الإسرائيلي “يوفال نوح هراري / Youval Noh Harari” نجم علوم البوب / Pop Science، في مستقبل تسود خلاله الآلات فائقة الذكاء، مع الخشية من تعايش صعب بين الإنسان الفائق (الإنسان الإله /Homodeus) وبين الإنسان العاقل (Homosapiens). أما بخصوص ظهور صورة رقمية رمزية (Avatars)متطورة داخل الواقع الافتراضي، فما الذي ستكون عليه مسؤوليتها القانونية؟ وما ستكون حقوقها وواجباتها؟بالنسبة إلى «جون غابريال غاناشا ،والذي خصص عملا كاملا لأسطورة التفرد الأثيرة لدى «كورزويل»، فيقترح مناصرو التفرد «تناسقا تاما مع العالم، وتكيفا لائقا مع الحقائق الخارجية، ومن ثم الانحباس، نهائيا، داخل قلعة حصينة لا مخرج منها. سيعثر الكائن،إذن، على نفسه محبوسا،إلى الأبد، ما دام كل فعل حر لن يتقيد بكمال العالم الذي تم، أخيرا،التوصل إلى إعداده». هذه بعض من التساؤلات العديدة حول المستقبل، والتي لا ينبغي لمجتمع اللا تلامس أن يتركها حبرا على ورق.
وفي انتظار أن تعيد الأدمغة المفكرة، داخل وادي السيلكون، ابتكار نفسها، أو أن تتجسد، مجددا، في حياة أخرى، فإنها حاليا، تشارف على السقوط.
تنفذ موارد الكوكب، وبأسلوب أنيق في السعي إلى البقاء على قيد الحياة، يفكر أصحاب الملايير بالخطة البديلة “Plan B” لتصور حضارة جديدة. من جزر عائمة في أعالي البحار، وصولا إلى غزو الفضاء، لنسارع إلى اكتشاف جنات عدن، أراض للمنفى، تلك الخاصة ببناة التقنية الذين يرعون حلما آخر، أكثر واقعية، الحلول محل الدولة ذات السيادة.


الكاتب : ترجمة: محمد الشنقيطي / عبد الإله الهادفي

  

بتاريخ : 17/04/2024