«نوافذ».. من غرف العنف (9) كبد من حجر

تعيش العديد من النساء، وإلى غاية اليوم، عنفا تختلف أشكاله وصوره، قد يكون جسديا أو نفسيا أو جنسيا أو قانونيا أو اقتصاديا أو ثقافيا …، ماديا أو معنويا. عنف قد يرافق الضحية أينما حلّت وارتحلت، قد تعيشه منذ نعومة أظافرها وهي طفلة أو يافعة ثم شابة، وقد يستمر ليصاحبها حتى بيت الزوجية ليكون عبارة عن حلقة ممتدة، وقد تجد نفسها لأول مرة تحت هذا السقف الجديد تعيش هذه التجربة المريرة غير المنتظرة.
عنف في البيت، في الشارع، في العمل، في الفضاءات التعليمية المختلفة مستوياتها، قد يكون عابرا وظرفيا، وقد يصبح ملازما و «أبديا»، يمكن لفصوله المادية أن تنتهي، بمتابعة المعتدي أو في حالات جد وخيمة بوفاة الضحية تحت التعذيب أو أن تضع هي نفسها مكرهة حدّا لحياتها، كما يمكن للأذى العضوي أن يتوقف بتدخل القانون لحماية المعنّفة لكن مع استمرار النفسي ما استمرت في الحياة.
اعتداءات مستمرة، تجعل المدافعات والمدافعين عن حق المرأة في حياة بدون عنف، يطالبون بمراجعة الترسانة التشريعية الخاصة بالنساء وبحمايتهن وإدخال تعديلات عليها تأخذ بعين الاعتبار كل المتغيرات والمستجدات التي تم الوقوف عليها وملاحظتها وتسجيلها، للقطع مع كل أشكال التمييز ضد المرأة وإحقاق الإنصاف والعدالة.
«الاتحاد الاشتراكي»، وانطلاقا من وقائع فعلية، لحالات عنف طالت مجموعة من النساء من فئات عمرية وشرائح اجتماعية مختلفة، شملت في حالات معيّنة أمهات وأطفالهن، إضافة إلى عنف استهدف طفولة بريئة، على امتداد جغرافية المملكة، قررت صياغة بعض القصص التي تحرّر ضحاياها من قيود الإيذاء العمدي، مع تعديل شخوصها وبعض من تفاصيلها، مساهمة في تسليط الضوء على واقع لا يزال الكثير من مساحاته يتحكم فيها الصمت والألم.
قصص من نوافذ غرف العنف، اكتوى داخلها ضحايا من نيران الأذى الذي اختلفت صوره، والذي يواصل البحث عن ضحايا جدد.

 

 

وقف سفيان أمام المرآة لكي يعدّل من هندامه ووالدته بجانبه تحرص على أن تقوم بتلك التفاصيل الدقيقة بنفسها، وهي تنظر إليه بكل حبّ، وتشكر الله على هذه اللحظة السعيدة، فاليوم سيشارك فلذة كبدها في حفل التخرج بعد حصوله على شهادة الإجازة، التي تتمنى أن تكون بوابة يعبر من خلالها صوب مستقبل مغاير لما عاشه وعاشته معه خلال كل تلك السنوات الفارطة.
حملت بشرى المشط بيدها وشرعت تصفّف شعر ابنها، فمررتها على ندبة لم تختف رغم مرور السنوات وإن كان حجمها قد تقلص نوعا ما، لأن أثرها لا يزال حاضرا، والذي يعتبر كالشجرة التي تخفي ورائها غابة من الألم. نظرت الأم لابنها فبادلها نظرة حزينة مع ابتسامة لكي يمنحها الأمل، فهما معا يعيان جيدا ما الذي تعنيه تلك الندبة وقصتها التي كانت صادمة وتسببت في تمزيق قلب بشرى وسفيان على حدّ سواء، والتي تأسف لتفاصيلها سكان الحي برمّته الذي هجرته الأم مع ولدها وهو لا يزال صغير السن رفقة والدتها، هربا من كل ذكرى موجعة تعمّق جراحهم يوما عن يوم.
عادت الذاكرة ببشرى إلى الوراء، حين تزوجت بنجيب، الذي أنجبت منه ولدا ثم بنتا، وكانت تحلم بأن تكون لها أسرة مثالية، لكن الزوج كان له رأي آخر، فهو لم يكن يرغب في مواصلة العيش في المغرب ويرى بأنه لا بد له من الهجرة السرية بحثا عن وضع مريح، يمكّنه من كسب المال وتحقيق أحلامه. رغبة لم تكن حاضرة عند الزواج ولا عند ولادة سفيان لكنها بدأت تكبر شيئا فشيئا، بعد ولادة مروة، فأصبح الزوج يطالب زوجته التي تكدّ وتجتهد من أجل تأمين لقمة العيش لأسرتها بمدّه بالمبلغ المالي الذي يتيح له تحقيق أمنيته، وأمام عجزها عن ذلك أصبح النقاش يحتد بينهما شيئا فشيئا، إلا أن اتفقا على الطلاق لاستحالة الاستمرار ولأن الزوج لا يتقبل أي أمر غير الهجرة التي تسكن عقله ووجدانه.
طلاق وإن كان بالتراضي فقد كان نتيجة لتعذر استمرار العلاقة الزوجية، الذي تمّ في سن مبكرة للطفلين، إذ لم يتجاوز حينها سن مروة 9 سنوات وشقيقها سفيان سبع سنوات، حيث اتفق الطليقان على ألا تحرم الأم الأب من رؤية ابنيه، وهو ما وقع فعلا، إذ ظل الاتصال بينهما قائما، وكانا يحددان مواعيد اللقاء وتسليم الصغيرين لقضاء اليوم مع والدهما، الذي أكّد لطليقته على أنه وإن كان عقله خارج المغرب إلا أن قلبه مع ولديه وسيظل حريصا على اللقاء بهما إلى أن يتوفر له المال المطلوب ويهاجر، وآنذاك سيعوّضهما عن طعم الفراق.
وعود وأقوال كانت تستقبلها بشرى بقلب منشرح، فهي وإن فشلت في أن يكون لها زوج، فعلى الأقل يجب عليها أن تعمل ما بوسعها لكي لا يُحرم ولديها من عطف الأبوّة، وإن كان عطفا غير مترجم عمليا، وهو ما ظلت تؤكد عليه وهي تخاطب طليقها حين كان يتم الاتصال بينهما، كما هو الحال بالنسبة لذلك اليوم الذي اتصل ليتسلم الطفلين، وبالفعل جاءت بشرى في الموعد وفي المكان المحدّد، وسلمته مروة وسفيان، على أن يوصلهما هو بعد ذلك إلى منزل والدتها حيث يقطن الجميع. عانق الأب الطفلين وسلّمهما قطع حلوى وشكولاتة ومضى بهما نحو وجهة لم تعرفها الطليقة التي غادرت بدورها المكان لمواصلة أشغالها. مرّ نجيب بعدد من الأزقة إلى أن وصل إلى البيت الذي يقطن به، فتح الباب ودعا الطفلين للدخول، نزع الحذاء والمعطف، وأطلق الموسيقى قائلا بأنه سينظم حفلا لهما وسيرقصان معا. ضحك الصغيران ضحكات بريئة وشرعا يرقصان على أنغام الموسيقى، قبل أن ينادي الوالد ابنته كي تلتحق به ليسلّمها أمرا، فاتجهت مسرعة نحوه، وفجأة صرخت بشكل قوي، حدّ صوت الموسيقى من صداه، لكنه أثار انتباه سفيان، الذي ذهب إلى الغرفة المجاورة لمعرفة ما الذي يقع وما أن دخل حتى تسمّرت قدماه أرضا وجحظت عيناه، وبدأت الدموع تنهمر من مقلتيه، فقد كانت أخته ساقطة أرضا تئن والدماء تخرج من ظهرها ووالده يقف عند رأسها وفي يده ساطور تقطر الدماء منه.
لم يستطع سفيان لا الكلام ولا الصراخ أو الهرب، بالمقابل كانت مروة تتألم وتبكي متوسلة والدها كي يتركها، الذي بادرها بضربة ثانية في الكتف ثم ثالثة في اتجاه القلب سقطت معها أرضا بدون حراك، ثم اتجه نحو ابنه الذي تبوّل أرضا من الخوف ولم يشعر إلا ويد والده تهوي على رأسه بالساطور فسقط مغشيا عليه لا يدري شيئا. وضع نجيب الساطور جانبا وهو ينظر إلى الصغيرين أرضا، مسح يديه من الدم بفوطة، وحمل هاتفا نقالا ثم اتصل بطليقته، التي ما أن ردّت على المكالمة حتى خاطبها قائلا « لقد أحرقت كبدك وانتقمت منك، والحب الذي كنت تمنحينه لطفليك لم يعد ممكنا لأنني قتلتهما».
كلام جعل بشرى تصرخ من هول ما سمعت، وخرجت تركض من مقر عملها الذي لم يكن يبعد كثيرا عن منزل طليقها. لم تعرف الوقت الذي قضته للوصول، لكنها ما أن حلّت بالمكان حتى وجدت سيارات الأمن والإسعاف متوقفة، وعلمت لاحقا أن طليقها بمجرد ما أن أنهى المكالمة معها اتصل برجال الأمن للتبليغ عن جريمته وتسليم نفسه. ركضت بشرى صوب باب المنزل وهي تصرخ وتبكي فاعترض سبيلها رجال أمن في محاولة لتهدئتها والتحقق من هويتها، وبعد التأكد من كونها والدة الطفلين تم توجيهها تحو سيارة الإسعاف التي تم فتح بابها في وجهها، التي عملت على نقل ابنها الذي كان لا يزال على قيد الحياة بعد أن تم منحه الإسعافات الضرورية صوب المستشفى، وعلى نفس السيارة كانت ترقد مروة، التي كانت ترى بأن بعض أصابعها تتحرك كلما داس سائق السيارة دواسة الفرامل، والحال أنها فارقت الحياة، وهو الأمر الذي لم تتقبله لاحقا، إذ كانت تمني النفس بأن تعيش صغيرتها وأن تنجو كما تمكن ابنها من النجاة، رغم الإصابة التي تعرض لها.
مرّت السنوات، كبر فيها سفيان وكبرت معه الآلام والجراح التي تندمل، في حين فارق والده الحياة وهو يقبع في السجن بسبب فعله الجرمي، واليوم يقبل الشاب على مرحلة جديدة من حياته، يمضي نحوها بثبات وهو يحمل آمال والدته، التي هجرت كل شيء من أجله، وظلت ترى فيه العزاء لمحنتها ولألمها الذي لم يتوقف، وهي التي فقدت طفلتها وكادت تفقده هو الآخر لولا الألطاف الربانية.


الكاتب : وحيد مبارك

  

بتاريخ : 27/04/2022