الدولة الوطنية والبعد الامبراطوري في ملكية محمد السادس -27- العنصر الديني في تحديد معنى المسؤولية بالمغرب

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث المتخصص في الانتروبولوجيا السياسية والبحث في شوون الدولة والاسلام السياسي، محمد الطوزي، وسلخ فيه، رفقة الباحثة اليزابيت هيبو ثلاثين سنة من البحث والتنقيب والتراكم.
وهو كتاب كل فصل فيه يشكل بنيانا قائم الذات، يسعى الباحثان من خلاله الى الدفاع عن اطروحة لم تكن بدهية حول الدولة، والبرهنة على تعايش الدولة ـ الامبراطورية والدولة ـ الأمة، بسجلَّيْهما المادي التاريخي و الروحي الرمزي، في راهن المغرب.
وهي عودة إرادية، لما لمسنا فيه من قدرة على تسليط الأضواء على فهم المسار الفيبيري (نسبة الى السيكولوجي الأمريكي ماكس فيبر) للدولة، وفهم الكثير من تحولاتها الراهنة.
وهوكتاب يمنح قارئه كما قد يمنح رجال السياسية في مراكز القرار والمناضلين أدوات التحليل الضرورية لفهم تحولات المغرب الحديث، وفهم الكثير من موضوعات الراهن السياسي والإعلامي المغربي (كما هو الحال في دستور 2011 وقدرة النخب السياسية والحاملين لمشاريع الليبرالية الجدد وتعالق شرعية الانتخاب مع شرعية التعيين في دولة تجمع سجلين ، واحد امبراطوري والاخر ينتمي الى الدولة ـ الأمة الي غير ذلك من المواضيع الراهنة).

إن التصور المشترك للمسؤولية من طرف عدد كبير يحيل على رؤية تراتبية وهرمية للمسؤوليات: حيث إن تقديم الحساب يتخذ طريقا متصاعدا من أبسط مسؤول إلى الله (سبحانه).. ولعل انتشار. هذا التصور المشترك حول المسؤولية يستند إلى العديد من العناصر، ومنها أولا العنصر الديني:
إذ أن انتصار الأشعرية ( الأشعرية نسبة إلى إمامها ومؤسسها أبي الحسن الأشعري، الذي ينتهي نسبه إلى الصحابي أبي موسى الأشعري، وهي مدرسة إسلامية سنية، في الوسط بين العقلانية المطلقة للمعتزلة والقراءة النصية الظاهرية ) قد أتاح بناء مقاربة للحرية الفردية، وبالتالي للمسؤولية المرتبطة بها في المنزلة ما بين القدرية والجبرية. ويحسن بنا أن نأخذ بعين الاعتبار بهذا الأمر دون السقوط في الاستعادة الكلية للحجج التي تبناها نوع من الاستشراق لا سيما لدى بعض المثقفين العرب المسلمين، الذي بالغوا في الربط بين النزعة القدرية والتخلف وغياب الفكر النقدي ..
ثم هناك الطريقة التي يتمظهر بها الحكم أو السلطة. حيث الملك ما فتئ يبرز كمسؤول عن كل ما يحدث في صالح شعبه، وذلك عبر جملة كبيرة من التعليمات والتنبيهات والإشارات والتدوينات وجلسات العمل المحدودة العدد، وغير ذلك من جلسات التوقيع المنظمة بعناية.. كما أن الفاعلين المكلفين بتنفيذ هذه الأشغال لا يفتأون يذكرون بالأصل الملكي لمسؤوليتهم، وبالنسبة لهم فإن الإعلان بأنهم جزء من المسؤولية الملكية مصدر أو مورد ثمين يصنع الفرق في المنافسة بين الخدام، ويرفع حظوظهم في إنجاح مشاريعهم .ولعل تلقي هذا الإخراج في المخيلة الشعبية لا يفسر وجود هذا التصور الترابي للمسؤولية. ولا يتعلق الأمر بمجرد معتقد بل إن فعاليته ثابتة:» عندما ينخرط الملك، كل شي يسير بشكل أحسن«( اللي بغاها الملك، تكون) .. إذ هو وحده بمقدوره أن يقلص المسافات ويتجاوز الوساطة، ويفتح الطرق المغلقة والعراقيل البيروقراطية، ويعطي الشرعية لتبني »فرق التدخل، وما تفترضه من طرق مختصرة على أن يتم تقنينها من بعد. وعليه فيكون من السهل الاعتقاد والاقتناع بأنه» إذا لم تجر الأمور كما يجب« فإن الخطأ يعود إلى المنفذين للنوايا الملكية أو إلى محيطه: تماسيح بن كيران الشهيرة . وهذه الرؤية الجزئية للمسؤولية تعد أحد أهم مؤشرات الثورة التوحيدية التي يكون الأمير، بحسبها، على خطى إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، وبالتالي فهو عادل وضامن للسلام..
فهو الراعي المسؤول عن الراعي…(وهذا التصور الرعوي للحكم من ميزات العالم ما قبل المعاصر، وقد صار شعبيا وحلل من طرف ميشيل فوكو، تبعا لكتاب آخرين مثل روسو )…
وقد كشف خطاب العرش 2017 أنواع سوء الفهم والتعقد التي تحيط بمفهوم المسؤولية، والتي لا يمكن إضافتها إلا عبر المرور بالاعتبارات النظرية، ولنا في ذلك سؤال أول:عم تكون الدولة مسؤولة؟ والجواب، حسب النظرية السياسية للبراديغم الرعوي، جواب بسيط: أن الدولة مسؤولة عن العيش المشترك »لساكنتها« ولكن ما معنى العيش المشترك والساكنة؟ومن هنا تتأتى أهمية تقاطع المقاربة بالنموذج المثالي والمقاربة التاريخية، والتصور الخاص بالجماعة والساكنة في تنوعه من تشكل سياسي ووضعية تاريخية إلى أخرى.. وقد رأينا أن الجماعة أو الأمكنة في الإمبراطورية لا توجد كمجموعة حيث يؤخذ بعين الاعتبار الأفراد وجماعات مبنية على أساس الروابط مع السلطة ( وهي جماعات بهذا المعنى مبتكرة) وشبكات علاقات محددة معروفة بدقة ولا وجود للجماعة إلا كقطيع يقوده الراعي. والقطيع مفكر فيه في مجمله ولكن يتم تدبيره بطريقة مشخصنة. حيث أن الراعي الصالح والجيد يبرز سلسلة من الكفاءات لمعرفة كل شاة من شياهه العرجاء العوجاء والمسنة والولد… أما في الدولة الوطنية فإن الجماعة، وإن كانت فعلا مشتركة، لكنها مبتكرة موحدة على نمط وطني، وتضم كل الساكنة فوق تراب واحد وسيادي. وهو الأمر الذي لا يمنع أنه مع مرور الوقت تبدأ عمليات الإدماج والإقصاء تعمل في تحديد فئات السكان كما يتم أخذها بالاعتبار عند ممارسة السلطة الفعلية، وبالتالي تكون فعليا موضوع المسؤولية..


الكاتب : n عرض وترجمة: عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 16/04/2024