الديبلوماسية الثقافية… بين عامل الهيمنة والتشارك

بديعة الراضي (*)

 

نعتبر موضوع الدبلوماسية الثقافية، موضوعا هاما لأبعاده الاستراتيجية في تقريب العلاقة بين الدول والشعوب، وخلق الجسور الكفيلة بأنسنة المجالات بين الضفاف، ودعم ثقافة الحوار والتواصل واحترام الاختلاف وتعزيز التشارك والتعاون والتضامن ، والانتصار لبنود حقوق الإنسان ولمفاهيم العدل والعدالة المجالية على مستوى القارات والضفاف.
إن قراءة المفهوم في حد ذاته يستدعي منا فهما مشتركا لدلالاته ووظائفه النبيلة، والتي تستوقفنا عند ممارسة المفهوم نفسه.
ومن هذا المنطلق فإن أبعاد المفهوم نفسه في تجلياته لا يمكن فصله عن الهدف الاستراتيجي من الاستعمال في حد ذاته ، ولهذا ظل مفهوم الدبلوماسية الثقافية مرتبطا في محطات تاريخية -والتي تلقي بظلالها بشكل أو بآخر على الضفاف – بالأبعاد المركزية لهذه الدبلوماسية، سياسيا واقتصاديا وعسكريا .
وإن كنا في مساهمتنا هذه نذهب إلى عمق السؤال نفسه حول الدبلوماسية الثقافية فإن واجب استحضار رصدنا لممارستها، يجعلنا نتساءل عن الهدف الذي دفع الكثير من الدول تجعل من ثقافتها ولغتها عابرة للحدود، موظفة في ذلك أرصدة بمئات المليارات من الدولارات من أجل نشر ثقافتها ولغتها دون اعتماد الإنصات المتبادل للثقافات الأخرى بما في ذلك المجالات التي سمحت لهذه الثقافات أن يكون لها فضاءات تتسع لهذه الممارسة .
في هذا الصدد ينبغي أن نطرح السؤال، في جوهره، عن أهمية الدبلوماسية الثقافية في العلاقة بين الدول والشعوب؟
– هل الدبلوماسية الثقافية ضمن آلياتها المستمدة من التاريخ أدت أدوارها في العلاقات بين الشعوب والدول والحكومات؟
ماهي نتائج ذلك الكم الهائل من المعرفة والعلوم والأشكال التعبيرية والبحوث على العلاقة بين إنسان والإنسان في كافة الضفاف ؟
-هل الهيمنة الثقافية في الخطوط التي سوقت لثقافتها ولغتها نجحت اليوم في تمكين ثقافتها من ممارسة دبلوماسية تسهل العلاقات بين الدول والشعوب في توفير مساحات أرحب لحوار الحضارات بدل صدامها؟
إن المتداول حول الموضوع ينطلق أولا من :
1- مفهوم الدبلوماسية الثقافية، يتجاوز مسألة التبادل الثقافي، أو متابعة طلبة البعثات الوطنية التعليمية، في الجامعات والمعاهد الأجنبية، إلى تقديم ثقافة الوطن وإبداعات أبنائه، وقيم المجتمع وتراثه الإنساني وصناعاته الثقافية إلى جمهور خارجي، بهدف تعزيز قوة الدولة ومكانتها، وبناء صورة ثقافية جذابة ومقنعة وممتعة ونافعة في أذهان المجتمعات الأخرى
2 – الثقافة قوة ناعمة، وقضية وطنية بامتياز والدبلوماسية الثقافية، هي ضرورة لمواجهة إيقاع الضغوطات التي أصبحت أكثر تسارعا وانتشارا ، معززة بالعالم الرقمي الذي أصبح بديلاً عن الخطاب التقليدي..
3-لا يمكن تجاوز كون العنصر الثقافي في السياسة الدولية، هو جزء مهم من عناصر التعاون والصراع. لقد أدركت امبراطوريات ودول كبرى أهمية الدبلوماسية الثقافية في سياستها الخارجية. وأفردت لذلك للثقافة موقعاً موقعا هاما بوزارات خارجيتها، بل أسست مراكز ومعاهد ومؤسسات، تعنى بالنشاط الثقافي الوطني في الخارج..
4- لا يمكن أن نخفي أن الدبلوماسية الثقافية والقوة الناعمة تشكل مظهراً مهماً من مظاهر النهضة المعاصرة في الدول التي اختارت نهجاً شاملاً ومتكاملاً للتنمية، باعتبار التنمية الشاملة هي الهدف الأساسي لتحقيق التقدم ، بما تستدعي من جهود لتجويد المنتج الثقافي، وبلورة قيم وفنون لها جدارتها الفنية على اعتبار هذه الدبلوماسية هي القوة الناعمة للدولة الوطنية..
أمام هذا المعطى، فإننا نقر :
إن الدبلوماسية الثقافية، هي الأكثر تأثيراً في الرأي العام، إذا ما أحسنت صناعتها وتقديمها، وهي قادرة على تغيير قواعد الانخراط والتعامل المؤثر إيجابياً في المجتمعات الخارجية. ففي عالم تشهد فيه الثورة الرقمية تصاعدها ، لم يعد من السهل قبول منطق استقواء دولة على أخرى.
فشعوب العالم اليوم ومعها دولها لن تقبل إلا لغة الند للند، فقد تقلصت الفوارق الفكرية والمعرفية والعقائدية بين الإنسان والإنسانبسبب هذه القرية التي قدمها لنا العالم الرقمي في مشهد مصغر على جهاز الكومبيوتر أو شاشة الهاتف، مما ساعد على تقوية البعد الثقافي وإمكانياته الكبيرة في التقارب بين الأفراد والشعوب.
اليوم وفي ظل التحولات المشار إليها، تدرك الدول المتقدمة جيدا أهمية الصناعة الثقافية في كافة مبادلاتها ، بما في ذلك التجارية وأصبحت الثقافة العامل القوي في إنجاح خطوط اقتصادية وسياحية وسياسية وأمنية استباقية مما جعل الكثير من الاستراتيجيات في مجال المال والأعمال توظف العامل الثقافي للوصول إلى الأذهان قبل إنزال منتوجاتها على أرض الواقع.
ولهذا فالعامل الثقافي في اختلافه وتعدده، لا يؤدي بالضرورة إلى الصدام، ولكن توظيفه بناء على مصالح جيو سياسية واقتصادية وسياسية دون مراعاة عوامل التشارك، يجعل منسوب الثقافة يتراجع أمام هيمنة ذات قوية على الذوات التي يعتبرها العامل اللاثقافي ضعيفة فيحدث الخلل بين عوامل تقريبية بين الإنسان والإنسان وأخرى مستعملة للبشر، لأن الثقافة والفن والأدب، هي مجالات للتشارك والتعاون والإنصات للإنسان وليست سببًا في التباعد وبثّ روح الكراهية بين البشر.
وفي هذا الصدد إذا كانت الدول المركزية سعت ولاتزال تسعى لتصدير نمط حياتها وثقافتها، باعتبارها النموذج الذي ينبغي أن يسود، لغة وثقافة وسلوكا ونمط عيش وكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة ، التي مست كل المظاهر والأشكال في الفعل الثقافي من أداة الموسيقى إلى طريقة جلوس الشاعر على المنصة، وحتى هندامه، ووقوف الممثل فوق الركح، وتوقف الإبداع عند مولير وشكسبير، ناهيك عن توقف مجال البحث عند نظريات أحيطت في الدرس الجامعي بنوع من التقديس في كتابة النصوص وقراءتها، وتتفيه كل من تجاوز مربعها في البحوث التي سميناها علمية، فإن البلدان النامية تسعى إلى التخلص من هذه الهيمنة والتوجه اليوم صراحة إلى حماية تراثها، بالترافع والحفاظ عبر كل الوسائل الممكنة، بما في ذلك استرداد ما ضاع من هذا التراث عشية الاستهداف الكبير الذي ظل عالقا في الأذهان عبر الأجيال.
إن هذا المنحى الذي يواجه الاختراق ويسعى إلى محو الذات والخصوصية ، لا يعني الانغلاق ولا بناء الأسوار بين الثقافات، كما لا يعني وضع حواجز أمام الانفتاح على الثقافة العالمية ومنجزاتها الكبرى في الأدب والفن والعمارة والتكنولوجيا والعلوم والتقنيات الحديثة.كما أن الانفتاح لا يعني تأخير الثقافة الوطنية والهويّة أمام ثقافة مهيمنة ، بقدر ما يعني حكامة التفاعل والتشارك بين كافة الثقافات الكونية .
تسعى اليوم العديد من البلدان لتطوير مؤسساتها الديبلوماسية الثقافية باعتبارها عاملًا من عوامل قوّة الدولة الكامنة التي لا بدّ من الاستفادة منها كتعويض أحيانًا عن القوّة العسكرية أو الاقتصادية، التي كانت تشكّل الحيّز الأكبر من واقع السياسة الخارجية، وعلى أقل تقدير خط دفاع سلمي مقبول ومعترف به ضمن إطار القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
ولهذا فإن تعزيز آليات الدبلوماسية الثقافية، يستدعي التوجه نحو هدف حضاري شامل، له أبعاده السياسية والوطنية والإنسانية، واستراتيجية ومنهجية جديدة تستوعب جوهر السياسة الخارجية وأهدافها وتطلعاتها المستقبلية، وتعزز الذات الوطنية الثقافية، وتنفتح وتتفاعل مع الثقافات الأخرى، وتصل إلى مصادر القوة والتأثير في فضاءات الرأي العام..
فامتلاك واستخدام القوة الناعمة الثقافية، هو ضرورة ، لكن ذلك له متطلباته وشروطه ومعاييره، لا تكفي فيه مشاركات رمزية في تظاهرات للفنون البصرية والمسرح والموسيقى ومعارض الكتب، والنقاشات العالمية الفكرية والتبادل الثقافي.. وإنما يستلزم منا جهوداً دؤوبة، ودعماً رسمياً وأهلياً، لتجويد الفعل الثقافي، وتطوير حقوله، وتحفيز الطاقات والإبداع والإنتاج، وجعل الثقافة في مكانة مركزية في مشروعنا الوطني العام، وإعداد وتدريب العناصر المكلفة بتنفيذ هذه الدبلوماسية.
إن التبادل الثقافي يستدعي سياسة ثقافية تعي أدوارها، خاصة في ظل وجود تحولات كبرى تراجعت فيها دول وصعدت دول أخرى.
إن التحولات التي شهدها العالم ، والتي أكدت تطوراته أن البعد المركزي في تدبير مجالات الإنسان وفي قلبه الثقافة لم يعد آلية لبناء السلام ، ولا مدن الجمال ولا تدبير ثقافة حقوق الإنسان، حتى وإن تعددت هذه المركزيات فإن وسائل مد الجسور لم تعد تنبني على منطق القوة للسيطرة على الضعيف، لأن الضعيف اليوم بإمكانه استعمال قوته في هدم القوة في ظل الصدام الحضاري والثقافي، والأمثلة كثيرة في هذا الصدد، حيث تعالت الأصوات وبلغة حادة في دول لا تملك القوة، رافضة مركزية القرار الثقافي واللغوي.
(*) رئيسة رابطة كاتبات إفريقيا

الكاتب : بديعة الراضي (*) - بتاريخ : 11/03/2024

التعليقات مغلقة.