المشهد الصوفـي – 24- وقفات للتأمل في قصيدة التَوَسُّل

إن القراء اليوم المولعين بـ «تراث فن الملحون» الأصيل يريدون أن يتعرفوا – بدورهم – على بعض الجوانب الخفية من حياة فرسان الزجل بالمغرب، وهي جوانب جد هامة ومفيدة، ظلت مخزونة بين ثانيا الصدور، ومحفوظة في الذاكرة الشعبية زمانا غير يسير، وعلى تعاقب الأجيال المغربية ؛ وقد رصدنا من أجل توثيقها مجموعة من اللقاءات والمهرجانات الفنية أزيد من خمسة عقود خلت.
نعم، إن هذه المرويات التي تروى حول بعض شعراء الملحون على اختلافها في بعض المدن المغربية لا يزال يحفظها أهل الملحون بالتواتر، جيلا عن جيل، مما يجري في كل منتدى من منتدياتهم، وفي كل محفل من محافلهم. إنها مرويات تكشف عن خفايا إنتاجات هؤلاء المبدعين، وعن ألغازها، ومعمياتها، بل من أجل العمل على تقريبها من الأذهان، والأذواق، فيحاول الدارسون، والباحثون، تقديم ذلك سهلا ومبسطا إلى جمهور عريض من القراء والمولعين بفن الملحون؛ في كل غرض من أغراض القصيدة الزجلية –على تعدد أشكالها الفنية، وأجناسها الأدبية -. ومن الأسماء اللامعة في هذا الفن، اسم قد ظل– في كل وقت وحين- تردده الشفاه وتستشهد بمعانيه العقول والأرواح، بل يرن صدى بدائعه وروائعه في كل وسط من الأوساط، في الغدو ، والرواح.

 

من أروع ما قيل في قصائد التصوف من خلال ديوان الشيخ عبد القادر العلمي رائعتُه الشهيرة تحت عنوان (التوسل) على حد ما يراه أستاذنا الدكتور عباس الجراري في هذه القصيدة التي تكشف عن رجاء العلمي المُلح في الله تعالى أن ينقذه، ويخلصه من الشدائد، ويعفو عنه ويهديه سواء السبيل؛ وفيها – أيضا – يطلب من الله أن يغيثه حتى يفرج كربه، ويصرف همه، ويهنأ خاطره، ويسلو قلبه، فليس له من ملجإ سواه، بعد أن فشلت كل حيله، وخيمت الأكدار في ساحته، وهو يريد أن يقضي حاجته في الحال، متوسلا إليه بالرسل، والأنبياء، وبالأولياء والسادات الصالحين، وكافة الأقطاب، والأبدال، وبجبريل، وملائكته، والعرش، وعزرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، وبالنبي اسماعيل ، وابراهيم :
غْيثْني يتـْفـَجـَا كـُرْبِي انـْلـُوحْ لـَهْوَالْ**خـَاطْري يتـْهَنـَا قـَلـْبي ايعُود سَالِي
لَينْ يَركَنْ مَنْ بَارَتْ لُو اجْمِيعْ لَحْيَالْ ** اُوعَادْ مَنْزلْ دِيوَانـُو ابْلَكـْدَارْ مَالِي
ادْخِيلْ لِكْ امُـــولاَيْ بالانْبيَا ولَرْسَالْ ** ادْخِيلؤ لِكْ أسيدي بْجَاهْ كـُلْ وَالـي
ادْخِيل لِكِ بَالسَّاداتْ الصَّالْحِينْ لـَفْضَالْ*
كـَافـَّا لـَقـْطَابْ ولجْراسْ وابدَالِي
يَا إلاهْ اسألتكْ بْجَاهْ حَــقّْ جْبريلْ** امْعَ امْلايكتْ العَرشْ هَلْ السّْمَا الْعَـالِي
اُوجَاهْ عَزريلْ وميكائيلْ ويسْرافِيلْ ** كُلْ مـَا نَطْلَبْ لِكْ نَبْغِهْ يَـتـْـعَــــطَالِي
وهو حين يتوسل إلى الله، يعرف حق المعرفة أنه غير غائب حين يرجوه، أو عاجز حتى يعذره، وإنما هو قريب، حاضر، جزيل العطاء والإحسان، قادر على أن يشفي ذات العبد من كل علة :
مـَانْتَ شِي غَايَبْ نـَرجَاكْ يَالـْجلِيلْ ** وْلا انْتَ شِي عَادز تعذرْ يَالـْمُولَى
اقـْريبْ حَاضَرْ نـَاظَرْ مَعْطَى احْسَانَكْ اجْزيلْ *
تـَـقْـــدَرْ تـَـشْـفِي مَنْ ذَاتْ العَـبْــدْ عـَـلـَّة
* * *
وفي الصورة الشعرية الآتية ، ينطلق العلمي من الاعتراف بضعفه ، فيقول :
لـَبْدَانْ اضْعِيفة والحمَل جَايَر اثقِيلْ* والخـْلايَقْ مـَا تـَـعـذرْ حـَالْ امْنَ الـتـَّبْلا
مـَايْلِ قوَّة ولا جَهْدْ وَلاَ حـُـــــولْ ** ولا تـَــدْبيرْ فــــي القـْضَا وَلا حـِـيــلاَ
كما أنه حين يتوسل إلى الله – عزل وجل – يكون على ثقة بأنه تـعالى سيستجيب لدعائه، إذ أن تنفيد أمره رهين بحرفي الكاف والنون «كـُنْ»، وتلك قدرته التي حارت فيها العقول :
حَقّْ قـُلـْتِ يَا رَبّْي للنـّْبـي الـْمَرْسُولْ *
مَنْ ادْعَاكْ لكْ في عْبيدَكْ حَقّْ تسَتجبْ لـُه
كِيف يَدْع عـَبْدَكْ ويخيبْ يَالمَسْؤول *
مَاسْريعْ الْمَعْطَا لـَجْمعْ مَنْ اطلبْ لُه
أمْرَكْ بينْ الـْكَافْ ونـُونْ حَقّْ مَفْعُولْ *
مَن اتحقَّقْ يَحْمَاقْ ويغيبْ عَنْ عـَقـْلـُه
** ** **
للتوسع ينظر كتاب القصيدة : للدكتور عباس الجراري
ويعود – مرة أخرى – الدكتور عباس الجراري، ليحدثنا عن الاتجاه الثاني، وهو عام، يتجلى في مواكبة أحداث عصره، وأحوال مجتمعه، ويسير في خطين :
1 – مدح السلطان والدعاء له ؛ وتبرزه قصيدته «غيث لهمام ابريح النصر يالقهار» يفضح أهل الفساد والضلال، ويعرب عن مساندته للسلطان المولى عبد الرحمن، فيما يقوم به لإخماد الفتن، والقضاء على محاولة التصنع ؛
2 – احتكاكه بالمجتمع ، وانتقاد سلوك الناس، وإصدار الموعظة، مما تفرد به أو كاد، إلى حد اعتبر به شاعر الحكمة الأول، وفيلسوف شعراء الملحون، إن لم يكن فيلسوف شعراء المغرب عامة .
***
وفي هذا السياق يذكر الجراري أن فلسفة العلمي، تبدو عند الكثيرين فلسفة سلبية يائسة، تقوم على التشاؤم من الناس، والحياة؛ والواقع – أو بالأحرى ليست دائما كذلك؛ حقا أننا سنجد روح التشاؤم تطغى أحيانا على العلمي، فيرى أن كل أبناء جيله موسومون بطابع واحد، ففشا فيهم النفاق والتحايل والخداع والرياء، وانعدام الإحسان، والصدق، والحياء، والعرض والحسب؛ وفي كل هذه الصفات عـلامات دالة على حلــول الخراب :
هَـاذُو اشْروط علايَم وقت التخراب *
عادْ النـِّـفاقْ امْودَّة بين النـَّاس الكبرى
بَالـْحيلـَة والمْصَانعَة والـْخَدَعْ عادت اخْلاق اطْبايعم مقلوبَة
مذهبهم ندريهْ خمَّمتْ اوْلادْ جيلنـَا كَاعْ بعْصَا وَحْدَا مَضْرُوبة
شاعْ الريا، والاحسان اغـْبَرو الصَّدق غـَابْ
والتـَّرفع الحيا والعرض والحسبْ …
وفي هذا الباب، يقدم إلينا الدكتور عباس الجراري مشاهد اجتماعية مختلفة من ديوان العلمي، تحمل ما تحمل من تجارب الشاعر، ومعانقته لجماعته العريضة .
فهذه الجولة الفسيحة في ديوان العَلمي، قدم – من خلالها – أستاذنا الدكتور عباس الجراري، ما قد أعطى للقارئ الكريم صورة واضحة عن معارف العلمي الصوفية، والاجتماعية، تنم عن جلال قدره، وعما استفاده أيضا من بيئته ومحيطه، وعن المؤهلات التي كانت تسانده، والتي ساهمت بها «الجامعة الشعبية في عصره» ؛
ومن شعراء الملحون الذين نظموا في قصائد التوسل، نذكر منهم الأسماء الآتية :
1 – الشيخ بن أحمد الحضار …
2 – الحسن بن شقرون …
3 – الشيخ أبو الأطبق …
4 – الشيخ بوخريص …
5 – الشاعر الأحمر المرياك …
6 – سيدي الأخضر بن مخلوف …
7 – الشيخ الأمغاري …
8 – سيدي احمد الحبيب …
9 – الشيخ البغدادي …
10 – الشيخ امريفق الحاج أحمد المراكشي …
11 – سيدي قدور العلمي المكناسي …
12 – الفقيه العميري …
13 – الشيخ ابن الوليد …
14 – الحاج محمد بن عمر الملحوني …
15 – الشيخ أحمد أبو الدهاج المراكشي واللائحة تطول .
للتوسع ينظر كتاب: القصيدة للدكتور عباس الجراري


الكاتب : عبد الرحمن الملحوني

  

بتاريخ : 28/04/2022